قبل أكثر من قرن من الزمان، وقبل أن يتحول مانشستر سيتي عملاق البريميرليغ إلى أحد أعمدة كرة القدم العالمية الحديثة، عاش النادي لحظة ظلام تاريخية قلما يتطرق إليها أحد اليوم، لكنها هزت أركان النادي وأعادت تشكيل موازين القوى في مدينة مانشستر.
وبينما تُحاصر مانشستر سيتي اليوم اتهامات ثقيلة تتعلق باللعب المالي النظيف، يغفل كثيرون عن واقعة أقدم بكثير، كادت أن تمحو النادي من الوجود قبل أكثر من قرن، بسبب جرائم مالية ارتكبها السيتي، انتهت بتفكيك الفريق، إيقاف المديرين، وهبوط قاس في موسم 1908-09.
اتهام بيلي ميريديث بالرشوة وعقوبات على مانشستر سيتي
بدأت الحكاية نهاية موسم 1903-04، حين تُوج السيتي بأول ألقابه الكبرى بفوزه بكأس الاتحاد الإنجليزي، وتلاه موسم استثنائي نافس فيه على لقب الدوري حتى اللحظات الأخيرة، لكن خلف هذا البريق، كانت هناك شبكة من الفساد تدير المشهد بهدوء، بسبب شيكات مفقودة، إيصالات مزورة، وحوافز غير قانونية للاعبين الجدد.
في عام 1904، أرسلت رابطة كرة القدم الإنجليزية اثنين من مسؤوليها للتحقيق، فتكشفت أولى خيوط التلاعب، وفرضت على النادي غرامة، وأُغلق ملعبه لشهر، لكن الأمور لم تتوقف هنا، ففي الموسم التالي، انفجرت القضية بالكامل بعد محاولة نجم الفريق بيلي ميريديث رشوة قائد أستون فيلا في مباراة حاسمة على اللقب، الأمر الذي أدى لإيقافه موسمًا كاملًا.
لم يكن بيلي ميريديث مجرد لاعب عادي، بل كان أحد أوائل نجوم كرة القدم في بريطانيا، وُصف حينها بـ"ساحر الجناح الأيمن"، امتدت مسيرته المذهلة بين عامي 1894 و1924، ودوّن اسمه في التاريخ بـ680 مباراة في الدوري الإنجليزي، لكنه لم يشارك في أي لقاء خلال موسم 1905-06، بعدما طردته الفضيحة خارج الملعب.
القرار أثار موجة من الجدل، واعتبر كثيرون أن الاتحاد يتعمد استهداف الأندية الشمالية، ميريديث نفسه نفى التهمة بشدة، مؤكدًا: "أنا بريء تمامًا وأدفع ثمن أخطاء غيري، اتهامي بالرشوة سخيف وغير مبرر، ولم أقدم على هذا الفعل يومًا".
لكن الصدمة الكبرى لم تكن في الإيقاف، بل في موقف ناديه منه، فبدلاً من دعمه، قررت إدارة مانشستر سيتي قطع راتبه طيلة فترة العقوبة، هذا الموقف العدائي من النادي دفع ميريديث إلى خطوة قلبت الموازين، حيث سرب للصحافة أدلة دامغة حول تجاوزات مالية أعمق داخل النادي، ما أدى إلى فتح تحقيق ثانٍ أكثر شمولًا انتهى بتفكيك الفريق وبيع لاعبيه.
في مارس/آذار 1906، أصدر الاتحاد الإنجليزي أحكامه الصادمة بحق مانشستر سيتي، ووقع غرامة مالية ضخمة، وتم إيقاف المدير الفني توم مالي ورئيس النادي وولثام فورست مدى الحياة، وتعليق نشاط 17 لاعبًا دفعة واحدة، مع إلزام النادي بعرضهم للبيع.
وحسب بعض المؤرخين، وعلى رأسهم جيفري غرين، جرى هذا "البيع الجماعي" في مشهد لا يقل غرابة عن كونه أقرب لسوق للعبيد منه إلى نادٍ لكرة القدم، ويقولون إن العملية تمت داخل غرفة اجتماعات تغمرها أدخنة السجائر في فندق كوينز بمدينة مانشستر، حيث عُرض اللاعبون أمام مندوبي الأندية المنافسة، بأسلوب أشبه بأسواق المواشي.
أما روايات أخرى، فتشير إلى أن المزاد جرى في ملعب "هايد رود" القديم، لكن المؤكد أن ما حدث شكل لحظة مظلمة في تاريخ الكرة الإنجليزية، عندما حُوّل اللاعبون إلى "سلع"!
كيف استفاد مانشستر يونايتد من فضيحة الجار "مان سيتي"؟
لم تكن العقوبات التي فرضها الاتحاد الإنجليزي على مانشستر سيتي في عام 1906 هي الجرح الوحيد، بل إن الألم الأكبر تمثل في الوجهة التي سلكها نجوم الفريق المطرودون، فقد انتقل عدد من أبرزهم، وعلى رأسهم بيلي ميريديث وساندي تورنبول وهربرت بورغس، إلى الجار الصاعد حديثًا إلى الدرجة الأولى، نادي مانشستر يونايتد.
تحول هؤلاء اللاعبون إلى حجر أساس في مشروع اليونايتد الجديد، وساهموا مباشرة في حصد أول لقب دوري في تاريخ النادي عام 1908، ثم التتويج بكأس الاتحاد عام 1909، قبل أن يعودوا ويقودوا الفريق نحو لقب دوري جديد عام 1911.
في المقابل، دفع مانشستر سيتي ثمن انهياره الفني، ليهبط إلى الدرجة الثانية في موسم 1908-09، ويدخل مرحلة من التخبط الكروي استمرت حتى التتويج بلقب الدوري مجددًا في عام 1937.