أحيانًا، لا تحتاج كرة القدم لأكثر من لحظة واحدة لتغيير مجرى التاريخ، حركة طائشة، أو تصرف "غير مدروس" يمكن أن يعيد تشكيل مصير لاعب بالكامل، بل وربما يُعيد توجيه مسيرة نادٍ بأكمله، وهذا تمامًا ما حدث مع لويس سواريز النجم القادم من الأوروغواي، حين قام بـ"عضة" شهيرة في كأس العالم 2014، قلبت الموازين، وأغلقت بابًا كان مفتوحًا على مصراعيه في مدريد، لتُفتح في المقابل أبواب المجد الكتالوني على مصراعيها في برشلونة.
لو لم تحدث العضة، لربما انتقل لويس سواريز إلى ريال مدريد، وتغيّرت خريطة الكرة الإسبانية في العقد الأخير؛ لربما لم يتشكّل ثلاثي MSN، ولربما لم يفز برشلونة بدوري الأبطال في 2015، وربما كان سواريز هو السلاح التهديفي لريال مدريد في الكلاسيكو، بدلًا من أن يكون أحد أكثر من عذّب حراسه ومدافعيه في المواجهات الكبرى.
آنذاك، كان اسم لويس سواريز على طاولة كبار أوروبا، لكن ريال مدريد كان الأقرب، تحرك بيريز بهدوء خلف الكواليس، وبدأت المحادثات مع ليفربول قبل انطلاق كأس العالم 2014؛ وبحسب تصريحات اللاعب لاحقًا، كان وكيل أعماله على تواصل مباشر مع إدارة النادي الملكي، والنية كانت واضحة: بنزيما في طريقه إلى أرسنال، وسواريز سيتولى قيادة الهجوم في العاصمة الإسبانية. المشهد كان جاهزًا، والصفقة على وشك الاكتمال.
لكن كرة القدم، كما هي العادة، لا تخضع للحسابات الدقيقة دائمًا. ففي كأس العالم 2014، وتحديدًا في مباراة الأوروغواي أمام إيطاليا، حدث ما لم يكن في الحسبان. في لحظة انفعال أمام جورجيو كيليني، ارتكب سواريز ما عُرف لاحقًا بـ"العضة"، في لقطة طائشة صدمت العالم وأشعلت وسائل الإعلام.
وهنا، ما حدث لم يكن مجرد لقطة مثيرة، بل نقطة تحول تاريخية غيّرت موازين القوى. في لحظة واحدة، تبدلت النيات، وأغلق ريال مدريد باب التفاوض، وبدأت فصول جديدة في قصة انتقال سواريز إلى برشلونة.
قبل العضة.. لويس سواريز في قمة المجد
قبل صيف 2014، كان لويس سواريز يعيش أوج مجده الكروي، بعد سنوات من التألق في هولندا مع أياكس أمستردام، حيث أذهل العالم بقدرته على تسجيل الأهداف وصناعتها، لينتقل إلى ليفربول الإنجليزي في يناير/كانون الثاني 2011.
ومع "الريدز"، وصل لويس سواريز إلى قمة عطائه، وموسم 2013-2014 كان استثنائيًا بكل المقاييس، قاد فيه سواريز فريقه إلى منافسة شرسة على لقب الدوري الإنجليزي الممتاز حتى الرمق الأخير، محرزًا 31 هدفًا في 33 مباراة فقط؛ لم يكن مجرد هداف، بل كان محركًا للفريق، بمهاراته الفردية الخارقة.
سواريز لم يكن مجرد مهاجم هداف، بل آلة كروية متكاملة، يراوغ، يصنع، ويهاجم بضراوة. في تلك اللحظة، كان أحد أكثر الأسماء طلبًا في سوق الانتقالات، وكانت وجهته الأقرب واضحة: ريال مدريد.
ريال مدريد يراقب عن قرب
داخل مكاتب "سانتياغو برنابيو"، لم يكن هناك شك أن لويس سواريز هو المهاجم المناسب لتولي قيادة الهجوم بجوار كريستيانو رونالدو. النجم الأوروغواياني كان يعيش ذروة تألقه، وريال مدريد كان يرى فيه القطعة الناقصة في خط الهجوم.
سواريز يسترجع ذكريات الاقتراب من ريال مدريد
ولم تكن تلك مجرد تكهنات صحفية أو اجتهادات إعلامية، بل تصريحات مباشرة من اللاعب نفسه، حيث كشف في مقابلة عبر إذاعة (Del Sol) الأوروغوايانية: "قبل الذهاب إلى برشلونة، وقبل كأس العالم، كان وكيل أعمالي يتحدث مع ريال مدريد. في رأسي، كنت أرى نفسي بالفعل هناك".
كانت المفاوضات تسير بسلاسة، والنادي الملكي بدا جادًا للغاية في ضمه، كما أوضح سواريز نفسه: "لقد كانوا مهتمين جدًا بضمي. كان كل شيء يسير على ما يرام، وكانت فكرتي هي الانضمام إليهم".
وحسب ما قاله، لم تكن المسألة مجرد اهتمام عابر، بل خطة متكاملة بدأت تتضح معالمها داخل أروقة مدريد، إذ كان بيريز يُجهز لصفقة كبيرة، حتى إن سواريز كشف عن كواليس مهمة كانت ستُغيّر مشهد الهجوم الأبيض بالكامل: "في ذلك الوقت، كان كريم بنزيما قد اتفق على الانتقال إلى أرسنال. لذلك، كان كل شيء مهيئًا لوصولي إلى العاصمة الإسبانية". بدا أن كل شيء يتحرك في اتجاه واحد: سواريز إلى ريال مدريد. لكن كرة القدم لا تعترف بالمؤكد، وسيناريو الحلم الملكي كان على وشك أن ينهار في لحظة واحدة فقط.
سواريز يخرج عن النص.. والفيفا يوقفه عن أي نشاط كروي!
في 24 يونيو/ حزيران 2014، خلال مباراة دور المجموعات في كأس العالم بين الأوروغواي وإيطاليا، ارتكب سواريز واحدة من أكثر التصرفات المثيرة للجدل في تاريخه. وفي لقطة صادمة، قام بعضّ المدافع الإيطالي جورجيو كيليني في الكتف، وسط ذهول الجماهير.
رد فعل الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) كان قاسيًا وغير مسبوق. تم إيقاف سواريز عن أي نشاط كروي لمدة أربعة أشهر، بالإضافة إلى منعه من خوض تسع مباريات دولية مع منتخب بلاده. كان هذا الإيقاف ضربة مؤلمة لآماله وطموحاته في تلك الفترة، وألقى بظلاله الكثيفة على مستقبله الكروي.
وصف سواريز هذه اللحظة لاحقًا بأنها الأكثر صعوبة في مسيرته، موضحًا: "كنت في حالة من اليأس، شعرت أنني خذلت نفسي، عائلتي، وزملائي. لم أصدق ما حدث".
لم يكن ذلك مجرد إيقاف رياضي، بل كارثة تسويقية لأي نادٍ يُفكر في ضمه. وبالنسبة لريال مدريد، الذي يتحرك دائمًا وفق اعتبارات تتجاوز الأداء داخل المستطيل الأخضر، كانت هذه الضربة كفيلة بتجميد الصفقة فورًا.
ريال مدريد يجمد الصفقة.. وبرشلونة يتحرك
مع تزايد الضغط الإعلامي حول الحادثة، قرر فلورنتينو بيريز، رئيس ريال مدريد، إيقاف التفاوض مؤقتًا، فالنادي الذي يسوّق لنفسه على أنه "نادي القيم الملكية"، لم يكن مستعدًا للتعاقد مع لاعب يعيش في قلب فضيحة سلوكية عالمية.
وهنا، دخل برشلونة على الخط وزوبيزاريتا، المدير الرياضي في برشلونة وقتها، رفقة المدرب لويس إنريكي، إذ رأوا في سواريز فرصة لا تعوّض، صحيح أن اللاعب موقوف، لكن السعر أصبح قابلًا للتفاوض، واللاعب نفسه بات يشعر بالخيانة من ريال مدريد. لم تتردد إدارة برشلونة كثيرًا، فبدأت في مفاوضات سرية مع ليفربول، ومع اللاعب نفسه.
وعن هذه الفترة قال لويس سواريز: "بعد العضة، تراجع مدريد، وبدأ برشلونة في التحرك، عندها اخترت برشلونة"، ليتم توقيع العقد رغم أن اللاعب لا يستطيع حتى دخول ملعب التدريب!
وبحلول منتصف يوليو، بدأت العاصفة تهدأ، وعاد ريال مدريد لمحاولة إعادة فتح ملف التعاقد مع سواريز، لكن الأوان كان قد فات. اللاعب كان قد أعطى كلمته لبرشلونة، والنادي الكتالوني أظهر له دعمًا غير مشروط في وقت تخلى عنه الجميع؛ كانت تلك لحظة اللاعودة؛ العلاقة بين سواريز ومدريد انتهت قبل أن تبدأ، بينما كانت بداية قصة خالدة كتبها في كتالونيا بحروف من ذهب.
سواريز في برشلونة.. "لوزيتو" يرد بطريقته الخاصة
انتقل لويس سواريز إلى برشلونة في صيف 2014، لكنه لم يتمكن من المشاركة مع الفريق إلا بعد انتهاء فترة إيقافه في أواخر أكتوبر من نفس العام. كانت فترة الانتظار صعبة، وعندما عاد سواريز إلى الملاعب، كان لديه هدف واحد وواضح، وهو الرد على كل المشككين في الملعب.
حقبة تاريخية لسواريز في برشلونة
لم يستغرق الأمر طويلاً حتى أثبت سواريز أنه يستحق كل يورو دفعه فيه برشلونة. أصبح جزءًا لا يتجزأ من ثلاثي هجومي أسطوري عُرف بـ "MSN" (ميسي، سواريز، نيمار)، والذي يُعتبر على نطاق واسع واحدًا من أفضل خطوط الهجوم في تاريخ كرة القدم. الانسجام بين الثلاثة كان مذهلاً، وقدرتهم على تسجيل الأهداف وصناعتها كانت لا تصدق.
في موسمه الأول، أسهم لويس سواريز بشكل كبير في فوز برشلونة بالثلاثية التاريخية (دوري أبطال أوروبا، الدوري الإسباني، كأس ملك إسبانيا)، وسجل أهدافًا حاسمة، بما في ذلك هدف الفوز في نهائي دوري أبطال أوروبا ضد يوفنتوس، وفي مواسمه الستة مع النادي الكتالوني، أحرز سواريز 195 هدفًا في 283 مباراة، ليصبح ثالث أفضل هداف في تاريخ النادي. كما قدم 113 تمريرة حاسمة، مما يؤكد دوره كصانع ألعاب لا يقل أهمية عن كونه هدافًا.
- أبرز إنجازات لويس سواريز مع برشلونة
| # | الإنجاز |
|---|---|
| عدد الأهداف | 195 هدفًا |
| التمريرات الحاسمة | 113 تمريرة حاسمة |
| دوري أبطال أوروبا | 1 لقب (2014-2015) |
| السوبر الأوروبي | 1 لقب |
| كأس العالم للأندية | 1 لقب |
| الدوري الإسباني | 4 ألقاب |
| الحذاء الذهبي الأوروبي | 40 هدفًا (2015-16) |
واستطاع برشلونة أن يكسب الرهان، وبينما ظل ريال مدريد يراهن على كريم بنزيما رغم الانتقادات، كان لويس سواريز يصنع المجد في كتالونيا، ويكتب واحدة من أنجح القصص التهديفية في تاريخ النادي.