في 9 يوليو 2006 كانت الأنظار متجهة حول العالم إلى الملعب الأولمبي ببرلين من أجل متابعة نهائي كأس العالم 2006 بين فرنسا وإيطاليا، في مباراة امتدت لأشواط إضافية بعدما وقع الثنائي زين الدين زيدان وماركو ماتيراتزي، على هدفي المباراة، قبل أن يصبحا لاحقًا طرفَي الحديث حول العالم أجمع، ولكن ليس بسبب الهدفين، بل بسبب ما حدث لاحقًا في الوقت الإضافي عندما قام قائد الديوك بـ"نطح" قلب دفاع الطليان.
حين دخلت المباراة أشواطها الإضافية، اشتعل فتيل الغضب، وحدث ما لم يتوقعه أحد، حين نطح زيدان خصمه الإيطالي، ليكتب بذلك سطر النهاية في مسيرته الدولية، ويغادر الميدان مطرودًا عند الدقيقة (110)، تاركًا خلفه دهشة الجماهير وصمتًا مريبًا خيّم على الملعب الأولمبي.
وفيما توجت إيطاليا لاحقًا باللقب بركلات الترجيح، تحولت النطحة إلى مشهد خالد يتجاوز في تأثيره تفاصيل المباراة، أما أحلام الفرنسيين فتبخرت على وقع تلك البطاقة الحمراء، وأصبحت سيرة النهائي حبيسة "نطحة" طغت على كل شيء.. لا أحد يتحدث عن أهداف اللقاء أو تتويج إيطاليا، بل عن نطحة زيدان وحدها.
نطحة خالدة.. وجدل أبدي
الواقعة أثارت ضجة إعلامية لا تهدأ حتى اليوم، وتحولت إلى أيقونة بصرية، لكن السؤال الذي لم يجد إجابة واضحة لسنوات طويلة هو.. ما الذي قاله ماتيراتزي ليستفز زيدان ويدفعه إلى تلك النطحة؟
في مقابلة مع قناة "Football Italian"، قال المدافع الإيطالي ماركو ماتيراتزي: "لقد عرض عليّ قميصه بعد المباراة، فقلت له: لا، أفضّل (..)".
وأضاف البالغ من العمر 51 عامًا: "الناس يعرفون أن مثل هذه الأمور تحدث في الملاعب. لم أشعر بأي شيء حينما نطحني، لكنني لم أتوقع ذلك منه، لقد كان الأمر جنونيًا".
وعن الحادثة التي باتت تلاحقه أكثر من أي لحظة أخرى في مسيرته، قال: "أنا لا أحب أن تُعرف مسيرتي بهذه الواقعة فقط. كانت لحظة توتر في نهائي كأس العالم، وشتائم متبادلة، لكن ما كان يجب أن يحدث ما حدث. لم أقابل زيدان منذ تلك الواقعة".
رد فعل زيدان ومبادرة من طرف واحد
في المقابل، لم يكشف زين الدين زيدان بشكل مباشر ما قيل له داخل أرض الملعب، لكنه لم ينكر الخطأ الذي ارتكبه؛ وفي تصريحات سابقة نقلتها صحيفة "ذا غارديان"، قال زيزو: "ما قمت به لا يُغتفر، كان هناك مليارات يشاهدون، بينهم ملايين الأطفال. أعتذر لكل من رأى تلك اللقطة".
ومع مرور السنوات، لم يظهر النجم الفرنسي أي نية للحديث مع ماتيراتزي، رغم المبادرات التي أطلقها الأخير؛ بعد مرور 19 عامًا على الواقعة، قال ماتيراتزي إنه لا يمانع الحديث مع زيدان، مضيفًا: "لم أتحدث معه من قبل، ولا بعد النطحة، لم نكن أصدقاء. لكنني أحترمه كثيرًا لاعباً ومدرباً، لقد فاز بثلاثة ألقاب دوري أبطال مع ريال مدريد. لا أبحث عن الاعتذار، ولو أراد الحديث فمرحبًا به".
ورغم هذه النبرة الهادئة، لم يصدر من زيزو أي تعليق على تلك التصريحات، بينما اعتبر البعض، مثل الفرنسي كريستوف دوغاري، أن ماتيراتزي يستخدم الواقعة للبقاء في دائرة الأضواء، حيث قال: "زيدان لا يهتم به إطلاقًا، ولن يرد. هو (ماتيراتزي) يستخدم النطحة للشهرة فقط".
سخرية فنية.. وتمثال مثير للجدل
قبل سنوات وتحديدًا في 9 فبراير/ شباط 2018، نشر ماتيراتزي صورة عبر حسابه على "إنستغرام" أمام عمل فني يجسد لحظة النطحة، وضعه أمام منزله كنوع من التفاخر أو السخرية؛ وأرفق الصورة بتعليق ساخر قال فيه: "دعها تثلج".. هذا العمل الفني الذي أثار الجدل أعاد الواقعة إلى الواجهة مجددًا، وفتح أبواب الانتقادات تجاه ماتيراتزي، الذي يبدو أنه لم ينسَ النطحة، لكنه استثمرها بطريقته الخاصة.
View this post on Instagram
لكن هذه لم تكن المرة الأولى التي يُخلّد فيها المشهد فنيًا. ففي 26 سبتمبر/ أيلول 2012، كشف الفنان الفرنسي-الجزائري عادل عبد الصمد عن تمثال برونزي ضخم بعنوان Coup de Tête (نطحة الرأس)، نُصب بشكل مؤقت في ساحة خارج مركز بومبيدو للفنون الحديثة في باريس، أحد أبرز المعالم الثقافية في فرنسا. التمثال البالغ طوله خمسة أمتار، التُقطت له مئات الصور من الزوّار، ولاقى اهتمامًا واسعًا من الإعلام والجمهور على حد سواء.
ورغم التقدير الفني الذي ناله، فقد أثار التمثال انتقادات حادة من بعض الرياضيين الفرنسيين الذين اعتبروا أن العمل لا يليق بمكانة زيدان، أحد أعظم من أنجبتهم الكرة الفرنسية، معتبرين أن تخليد تلك اللحظة المؤسفة وحدها دون سياق أو إنجاز، يسيء إلى تاريخه. التمثال أُزيل بعد أسابيع قليلة، لكن الجدل الذي رافقه لم ينتهِ.
لا يمكن اختزال مسيرة زين الدين زيزو في "نطحة"، فقد كان من بين أعظم من لمسوا الكرة، وقاد فرنسا للقب عام 1998، وصنع المجد مع ريال مدريد لاعبًا ومدربًا؛ لكن تلك اللقطة في نهائي مونديال 2006 ظلت جزءًا لا يتجزأ من صورته العامة، تمامًا كما ظلت جزءًا من تاريخ كأس العالم.
وفي نهاية المطاف، لم تكن حادثة زيزو وماتيراتزي مجرد مشادة عابرة في مباراة نهائية، بل لحظة تحوّلت إلى مفترق طرق لمسيرتين. الأولى انتهت في ذروة الغضب، والثانية استمرت لكنها ظلت محاطة بالجدل. وبين هذا وذاك، بقيت "النطحة" حاضرة في الذاكرة الجماعية، تُستعاد كل عام وكأنها حدث لم يمر عليه زمن.