في تاريخ كرة القدم، تروى حكايات المنتخبات الأسطورية التي سطرت مجدها بحروف من ذهب، تاركة وراءها إرثاً لا يمحوه الزمن؛ وبين هذه الحكايات، تبرز قصة منتخب فريدة من نوعها، قصة منتخب كان أول من كتب التاريخ في البطولة القارية، ثم اختفى فجأة في غياهب النسيان، تاركاً خلفه ذكريات ممزوجة بالحنين والإعجاب، على غرار منتخب الاتحاد السوفيتي لكرة القدم.
لم يكن منتخب الاتحاد السوفيتي مجرد فريق كرة قدم؛ لقد كان انعكاسًا للهوية السوفيتية، رمزًا للقوة، للانضباط، وللتفوق الجماعي على الفردي، لينجح السوفيت في ترك بصمتهم بوضوح في هذه الساحة، محققين إنجازات يُحتفى بها حتى اليوم.
في العاشر من يوليو/ تموز 1960، اجتمع أكثر من 17 ألف متفرّج في "بارك دي برانس" بالعاصمة الفرنسية باريس، يشهدون أول نهائي لكأس أمم أوروبا، وسط أجواء لا تُنسى، سجل منتخب الاتحاد السوفيتي بصمته التاريخية بتتويج استثنائي، تُوج فيه باللقب الوحيد في تاريخه.
في تلك الليلة، كتب لاعبو السوفيت قصة نجاح أسطورية، فازوا بهدفٍ قاتل بعد وقت إضافي، لكن الغريب أن ما بدا وكأنه بداية لعصر جديد من الهيمنة، لم يتحقق، إذ لم يتمكن المنتخب من البناء على هذا الإنجاز، واكتفى بتلك اللحظة التاريخية التي لم تتكرر، وظل ذلك التتويج فصلاً منفردًا في سجلٍ افتقد للبطولات لاحقًا.
ولادة "يورو 1960" ونشأة منتخب لا يقهر
في أعقاب تأسيس الاتحاد الأوروبي لكرة القدم (UEFA) عام 1954، انطلقت فكرة إنشاء بطولة تجمع كبار منتخبات القارة، وهو ما تحقّق أخيرًا في 1960، تحت اسم "بطولة الأمم الأوروبية"، دخل 17 منتخبًا في التصفيات، لكن برفض ألمانيا الغربية وإيطاليا وإنجلترا له، وإقصاء إسبانيا، وصل كأس الأمم أربعة فقط: الاتحاد السوفيتي (متأهل تلقائي)، تشيكوسلوفاكيا، يوغوسلافيا، وفرنسا المستضيفة.
منتخب السوفيت دخل البطولة بقيادة المدرب غافرييل كاشالين، وكان يتمتع بثقة كبيرة بعد فوزه بالميدالية الذهبية في أولمبياد 1956، وضمت التشكيلة مجموعة من أبرز اللاعبين في ذلك الوقت، مثل الحارس الشهير ليف ياشين، والقائد إيغور نيتو، والجناح سلافا متريفيلي، والمهاجم فيكتور بونيديلنيك.
بداية الإنجاز.. نصف نهائي سطع فيه الاتحاد السوفيتي
في السادس من يوليو عام 1960، دخل السوفيت اختبار نصف النهائي أمام منتخب تشيكوسلوفاكيا، على ملعب "ستاد فيلودروم" بمدينة مارسيليا الفرنسية. ورغم أن المنتخب التشيكوسلوفاكي لم يكن خصمًا سهلًا، فإن السوفيت فرضوا أسلوبهم وسيطرتهم على مجريات اللقاء منذ البداية.
لاعبو الاتحاد السوفيتي المشاركون في بطولة كأس أوروبا 1960
قدّم منتخب السوفيت واحدة من أفضل مبارياته في البطولة، ونجح في تسجيل ثلاثة أهداف نظيفة دون رد؛ إذ أحرز فالنتين إيفانوف هدفين في الدقيقتين (34) و(56)، ثم أضاف فيكتور بونيديلنيك الهدف الثالث في الدقيقة (66)، ليؤكد عبور الفريق إلى النهائي الأول في تاريخ كأس الأمم الأوروبية.
في الوقت نفسه، شهدت العاصمة باريس مواجهة مجنونة بين فرنسا ويوغوسلافيا على ملعب "بارك دي برانس"، انتهت بفوز يوغوسلافيا (5-4) في واحدة من أكثر المباريات إثارة في تاريخ البطولة؛ بفوزه الكبير، تأهّل منتخب الاتحاد السوفيتي إلى نهائي البطولة وهو يحمل ثقة كبيرة، وطموحًا واضحًا للعودة إلى موسكو باللقب الأول في تاريخ المسابقة.
النهائي.. معركة باريس الخالدة
في العاشر من يوليو 1960، احتضن ملعب "بارك دي برانس" بالعاصمة الفرنسية باريس المباراة النهائية بين الاتحاد السوفيتي ويوغوسلافيا، أمام حضور جماهيري بلغ نحو 18 ألف متفرج؛ كانت هذه المباراة تمثل لحظة حاسمة في تاريخ البطولة، باعتبارها أول نهائي في النسخة الافتتاحية من كأس الأمم الأوروبية.
بدأ اللقاء بحذر واضح من الفريقين، لكن المنتخب اليوغوسلافي استطاع كسر الجمود وسجّل الهدف الأول عن طريق ميلان غاليتش في الدقيقة (43)، وهو تقدم أربك حسابات السوفيت، لكنه لم يُفقدهم التركيز، حيث دخلوا الشوط الثاني بشكل هجومي وسجّلوا هدف التعادل سريعًا عبر سلافا متريفيلي في الدقيقة (49)، بعد هجمة منظمة.
استمر التعادل حتى نهاية الوقت الأصلي، ليذهب الطرفان إلى الأشواط الإضافية، وهناك جاء الحسم برأسية بونيديلنيك في الدقيقة (113)، وهو هدف منح السوفيت أول لقب قاري في التاريخ الأوروبي، وأهدى جماهيره فرحة لن تُنسى.
بذلك الهدف القاتل، حسم السوفيت أول لقب أوروبي في تاريخ المنتخبات، ليدونوا اسمهم في سجلات المجد القاري، وسط احتفالات كبيرة داخل أرض الملعب، وفي شوارع موسكو وباقي جمهوريات الاتحاد، كانت هذه لحظة لا تُنسى، لكنها –وللمفارقة– لم تتكرر قط في تاريخ المنتخب.
من القمة إلى الحافة.. السوفيت يواصلون الظهور المشرف
وبعد تتويج 1960، حافظ السوفيت على حضوره القوي في البطولة، فبلغ النهائي ثلاث مرات أخرى في أعوام 1964، 1972، و1988، لكنه اكتفى بالوصافة، كما خسر مباراة تحديد المركز الثالث في نسخة 1968.
مع انهيار الاتحاد في مطلع التسعينيات، انتهت صفحة منتخب لم يكن يمثل دولة فقط، بل منظومة كاملة من الجمهوريات؛ وحلّت روسيا وأوكرانيا وبقية الجمهوريات المستقلة محل الكيان الكروي الواحد، لكن كل منها سار في طريق منفصل، دون أن يستطيع أي منهم استعادة الهيبة الجماعية أو تكرار إنجاز 1960 الذي ظل حكرًا على اسم لم يعد موجودًا.
التفكك والانهيار.. النهاية غير السعيدة
مع بداية تسعينيات القرن الماضي، بدأ التفكك ينهش جسد الاتحاد السوفيتي حتى جاء العام 1991 ليشهد رسميًا انهيار الاتحاد، وتفكك الجمهوريات التي كانت تشكل بنيته؛ هذا الحدث لم يمر مرور الكرام على كرة القدم، حيث اختفى اسم منتخب الاتحاد السوفيتي من الساحة.
في يورو 1992، شارك منتخب باسم كومنولث الدول المستقلة (CIS)، لكن الفريق ودع البطولة من دور المجموعات؛ وبعدها ظهرت المنتخبات المنفصلة مثل روسيا، أوكرانيا، جورجيا، أرمينيا وغيرها، كلٌ منها يسعى لبناء مجده الخاص.