قلبي مع يورغن كلوب مدرب فريق ليفربول الإنجليزي في ظل المعاناة النفسية هذا الموسم و التي بلغت ذروتها أمام نابولي الإيطالي في مستهل دوري أبطال أوروبا، و عقلي لا يؤيد برودة ردود أفعاله المستندة على تدابير سطحية لا تغني و لا تسمن من جوع.
عواطفي كلها مع هذا الألماني الذي نقل ليفربول في خمس سنوات من خانة الظل إلى قمة المنافسة المحلية و الأوروبية، لكن عقلي يرفض تعليق ما يحدث للريدز من تراجع في منسوب الأداء على شماعة الحظ العاثر و التوفيق الغائب و الإنهاك البدني و التفريط في ساديو ماني.
بادئ ذي بدء أعترف أن الحظ موجود في كرة القدم بنسبة كبيرة، غير أن الحظ لا يأتي إلا للمجتهدين و المثابرين و يدير ظهره للمتقاعسين، كما أن التوفيق أيضا له دور فاعل في حسم مباريات كرة القدم، لكنه لا يأتيك على طبق من ذهب دون تركيز وتعب وكفاح وحسابات أخرى ليس من بينها الاستعانة بعفريت من الجن.
حتى الآن لا أعلم شيئا عن الأبعاد الموضوعية و الفلسفية التي تستدعي تعاطي يورغن كلوب مع الأحداث السيئة التي تتوالى على ليفربول كالعواصف بمنطق التريث و الصبر دون تدخل منطقي حاسم يعيد للاعبين توازنهم النفسي.
الواقع أن ما يحدث لليفربول هذا الموسم أزمة نفسية وفنية مستحكمة، وليست مجرد مشكلة طارئة يمكن تجاوزها بالصبر وبقليل من الاجتهاد، فالتشخيص في هذه الحالة نصف العلاج والنصف الآخر يعتمد على كلوب نفسه في تلافي الصدأ الفني الذي علق بالمنظومة و يؤدي بطبيعة الحال إلى اختناق تكتيكي يصيب تركيز اللاعبين في مقتل.
وحاشى و كلا أن أكون متجنيا على يورغن كلوب، فهذا المدرب لازال الرجل المناسب لليفربول و لا أشكك إطلاقا في عمله و قدرته على احتواء مخلفات الأزمة، لأنه باختصار لم يقصر مع اللاعبين لا فنيا و لا تكتيكيا و لا بدنيا و لا نفسيا، لكن مشكلة كلوب هذا الموسم في قناعاته التكتيكية الخاطئة، إضافة إلى الإصابات التي فاقمت الأزمة وزادت طين ليفربول بللا.
ومن يتابع المشهد الليفربولي منذ بداية هذا الموسم سيكتشف - و بعض الاكتشافات مكررة - أن ليفربول كان يعاني من جلطات فنية وتكتيكية متسارعة أدت إلى اختناق في الشرايين نتج عنها تصلب في منظومة اللعب وخروج المرونة عن الخدمة، و هنا وجب التنويه إلى أن معظم علاج هذه الجلطات الصغيرة بين يدي المدرب يورغن كلوب، شريطة أن يحسن التدبير ليحدث التغيير قبل أن تستفحل الأزمة و تتحول إلى ذبحة نفسية تستدعي دخوله غرفة العناية المركزة.
الحقيقة التي يدركها كلوب ولا تقبل الجدل أو النقاش تتعلق بتلك الأخطاء الواضحة داخل الملعب، سواء من حيث شاكلة اللعب المتنافرة و غير المتجانسة، مرورا بالدور المحتشم الذي لا يتناسب مع مؤهلات المصري محمد صلاح، ونهاية بالشرود الذهني الذي يفقد البناء الفني كل التركيز.
ومن يتصور أن مشاكل ليفربول يمكن تعليقها على شماعة مغادرة السنغالي ساديو ماني للفريق متوجها إلى بايرن ميونيخ الألماني مخطئ تماماً، لأننا هنا نتحدث عن أزمة وليس مشكلة فنية خلقها رحيل لاعب مثابر و مقاتل مثل ماني.
ومن يتصور أن عودة الإسباني تياغو الكانتارا لقيادة وسط ميدان ليفربول هو من سيمنح الشاكلة النجاعة و الصلابة و التماسك مخطئ أيضاً، على اعتبار أن مشكلة ليفربول ليست مجرد خط وسط فقد مرونته التكتيكية ولم يعد قادرا على إنتاج الحلول الهجومية والدفاعية، بقدر ما هي أزمة توظيف، وأزمة عناصر انتهت صلاحيتها معنويا.
ومشكلة خط الوسط أنه أصبح بلا حظ و بلا حل أيضاً، و مازلت عند قناعتي بأن هذا الخط لابد أن يتعزز بلاعب فنان يمتلك وعيا تكتيكيا أكبر، لأن التدفق الهجومي حالياً في ظل هذه الأدوات الصدئة يبدو بطيئا ومكشوفا ومن السهل على الخصوم تدمير أي بناء هجومي.
لاحظوا أن مشكلة ليفربول المستعصية من شقين: نفسي وتكتيكي، و يمكن إضافة الوافدين الجدد الذين لم يكونوا على مستوى طموحات فريق كبير مثل ليفربول، و هنا مربط الفرس كما يقولون.
نفسيا يعاني ليفربول من تآكل في المعنويات و من تصدع داخلي يبرز بصورة لافتة للأنظار في لامبالاة اللاعبين و قلة تركيزهم و سرحانهم و عدم جديتهم، كما لو أننا نشاهد فريقا مصابا بالتخمة الكروية، حيث الترهل المهاري يبدو واضحا والتشبع المعنوي يبدو ظاهرا، وهنا على كلوب أن يبحث عن (حمية) سريعة بهدف تجويع اللاعبين و رفع منسوب حماسهم وتركيزهم، عندها ستعود القتالية إلى قواعد (الليفر) سالمة، لكن ليس قبل أن يفهم كلوب الأسباب الموضوعية والذاتية التي استدعت كل هذه التركمات التي يدفع ثمنها جمهور (الليفر) من معنوياته التي هي أصلا في الحضيض.
تكتيكيا يعاني (الريدز) في ظل قناعات كلوب الغريبة من قتامة في رد الفعل جعلت منه حقلا للتجارب في التوقيت الخطأ، تماما مثلما أن هذه القناعات أدخلت الفريق في غيبوبة بلا قرار استنزفت كل الرصيد البدني، و إليكم هذه الأدلة الساحقة الماحقة :
أولا: في عمق الدفاع لا يوجد استقرار على الشريك الذي يجب أن يلازم فيرجيل فانديك، مرة يتم إقحام جو جوميز المتواضع فنيا، و مرة أخرى يتم الدفع بجويل ماتيب الأقل جودة تكتيكيا و هكذا دواليك، ومثل هذا التخبط في القرار يولد ارتباكا و تباعدا فنيا و نفسيا، فكيف يمكن لأي مدافع في العالم مهما كانت قيمته أن يتكيف مع مسلسل الإحلال و الإبدال غير المبرر؟
وعندما تضيف إلى هذه الأعباء عبئا مثل ألكسندر أرنولد بأخطائه وسوء تموضعه الدفاعي يمكنك عندها قراءة الفاتحة على خط حيوي يفترض أنه خط منيع يبث الطمأنينة في نفوس كل أفراد الفريق.
ثانيا: لطالما كانت نجاحات كلوب السابقة من صناعة خط وسط منسجم و متناغم يعرف كيف يسيطر على أجواء المباريات الصعبة التي تلعب تحت ضغط نفسي رهيب، و لطالما كان كلوب يتصور أن عناصر هذا الخط لن تفقد مرونتها تحت أي تأثير، لكن ما توقعناه ممكنا استحال حقيقة إلى أزمة تقوس معها خط الوسط حتى أصبح علامة استفهام خطيرة.
للسن بالطبع أحكامه القاسية مهما بلغت مهارات اللاعبين، فمن غير المعقول أن يرهن كلوب مستقبل الوسط بتركيبة دخلت مرحلة الكهولة كرويا، ببساطة شديدة ما الذي يمكن أن ينتجه لاعب مثل جيمس ميلنر أو جوردان هندرسون و كلاهما تخطى الثالثة و الثلاثين؟
كيف يمكن لكلوب الرهان على عناصر شاخت و تشبعت و هو أول من يعلم أن القوة البدنية هي من تصنع الفارق في البريمر ليج تحديدا، وهي من تقفز بمعدلات التركيز إلى الذروة أوروبيا؟
لقد أكدت خسارة ليفربول أمام نابولي الإيطالي، و قبلها الخسارة من المان يونايتد، و سلسلة التعادلات المخيبة أن وسط ليفربول المترهل ينفر أمام أول إشكال دفاعي يوضع أمامه، فلكي تسيطر على أية مباراة تحتاج إلى الضغط على المنافس و استخلاص الكرة لأجل الاستحواذ، ثم المحافظة على هذا الاستحواذ تحت ضغط المنافس، و للأسف خط وسط ليفربول الحالي لا يستخلص و لا يستحوذ و هذه و لا شك كارثة تكتيكية تدمي القلوب.
ثالثا: تصور يورغن كلوب أن هداف الفريق و نقطة قوته الهجومية محمد صلاح يمكن أن يلعب دور (السوبر مان)، فكان أن صمم له شاكلة تكتيكية تبعده عن المنطقة التي يحبذها لأجل فتح المساحات أمام الوافد الجديد رأس الحربة الأورغوياني داروين نونيز المتواضع مهاريا.
من دون شك جاء هذا التغيير المفاجئ في نسيج خط الهجوم ليصيب الفريق بالعقم، و هنا نفتح قوسين و نتساءل:
ما هي التدابير التكتيكية الطارئة التي استدعت كلوب تحويل صلاح من متمم للعمليات في الثلث الهجومي إلى مجرد ممهد و معد و صانع للعب؟
لاعب مثل محمد صلاح يسجل لك في الموسم الواحد ما بين 40 - 50 هدفا تقضي على نجاعته و تفقده حاسته التهديفية لأجل رهان خاسر، كيف نهضم تضحية كلوب بكل هذا الزخم في مراقصة الشباك، و من ثم الرهان على مهاجم كلاسيكي لا يمكن أن يكون منتجا مثل صلاح مهما أجمعنا على حدسه و موهبته التهديفية؟
يمكن لأي مدرب حاذق أو خائب أن يتعجب من الدور الجديد المنوط بمحمد صلاح، و بقليل من الاجتهاد يستطيع ذات المدرب أن يربط معظم انحسار المد التهديفي للعزلة التكتيكية التي يعاني منها محمد صلاح.
وبصراحة فيها راحة يلعب يورغن كلوب هذا الموسم بتشكيلة بشرية محدودة القدرات اختلط عليها الرسم التكتيكي و هو أمر خطير أضر تماما بالانضباط، ففقد اللاعبون توازنهم على مستوى المواقع، و في ظل هذه الفوضى التكتيكية و غياب الروح لم يعد أحد يدري كم مهاجم في الفريق؟ و كم لاعب وسط؟ و كم مدافع؟
و بقراءة سطحية تبدو خطوط ليفربول مهلهلة فنيا و مفككة نفسيا و محنطة تكتيكيا، ربما لأن الخيارات محدودة للغاية، و ربما لأن الفريق ككل منوم مغناطيسيا لأسباب ظاهرها رحيل ماني و باطنها أخطاء في التركيبة، و مع كل هذه السلبيات طبيعي جدا أن يدفع (الريدز) الثمن باهظا طالما يصر كلوب على اللعب المفتوح بأدوات أكل عليها الدهر و شرب في غياب الوعي التكتيكي.
على يورغن كلوب أن يقرأ تفاصيل المشهد الليفربولي الحزين بعيدا عن العاطفة، و لو أزاح قلبه و فكر بعقله سيرى بوضوح ما نراه، عندها سيتأكد الفيزيائي الألماني أن فريقه كله سوءات و للناس أعين..!