مثل لاعب اندفع تجاه كرة عرضية طائرة، بكلّ ما يملك من شغف مسبوك على قالب الإرادة، لكّنه فقد اتزانه في اللحظة الأخيرة، وبدلًا من إحراز هدف يشعل الجماهير، ارتطم رأسه بالعارضة وساد الصمت لبرهة، كأن ذلك تجسيد موضوعي لهدوء ما قبل الكارثة، لتكون النتيجة صدمة أنهت مشواره الرياضي وظلت قصّته كناية عن دهشة تختبئ تحت قبعة ساحر ماهر!
كانت تلك باختصار شديد وتكثيف عالٍ، سيرة واحد من أساطير الكرة المصرية الذي فاق كلّ التوقعات، عندما كان يراوغ دفاع الفريق الخصم كلّه، ثم الحارس، ويرفض التسجيل ليقف الحارس مجددًا ثم يراوغه ثانيةً، وربما معه أحد المدافعين الذين أتيحت لهم فرصة اللحاق به ليسجّل بعدها! هذه الثقة لم تنبع من فراغ، إنما هي نتيجة تراكمات وخبرة.
إذ سبق للاعب مصر المعروف منذ ثلاثينيات القرن الماضي عبد الكريم صقر، أن شارك في دورة برلين الأولمبية عام 1936 في سنّ الخامسة عشرة، واعتبر أصغر لاعب يشارك في هذا الأولمبياد، كما شارك "كرم" حسبما لقبته الجماهير في دورة لندن الأولمبية عام 1948، وكان من أوائل اللاعبين الذين خاضوا تجربة الاحتراف في إنجلترا وتحديًد في نادي "هدرسفيلد" قبل أن يعود إلى مصر ثانيةً ويعتزل سنة 1957 دون أن تمحى موهبته بل ظل مطلبًا جماهيريًّا في المهرجانات الرياضية ليقدم فواصل كروية يستعرض فيها مهاراته وقدرات التحكم بالكرة حتى أمام الرؤساء والملوك والحكام!
وُلِد "كرم" عام 1921 في حي العباسية الذي تربت فيه الكثير من القامات الأدبية الرفيعة، على رأسها نجيب محفوظ، وهناك لمع ذلك الفتى بموهبة غير عادية ومهارات تفوق الوصف، ومنذ طراوة سنينه تفتّحت عيناه على مجموعة أقارب وأصدقاء يلعبون الكرة وأهمهم محمود مختار صقر لاعب الأهلي، فكان من البديهي امتزاج دمائه بعشق الكرة، فيما أسهم خاله طلعت حرب باشا مؤسس "بنك مصر وعرّاب الاقتصاد المصري" بدور مهم في زيادة عشقه لملاعب كرة القدم، إذ راح الخال يشجعه معنويًّا وماديًّا حتى تعلق بالكرة للحدود القصوى، ومن تلك الأسرة العريقة بدأت نجومية عبد الكريم.
كل ما سبق سيبقى مجرد تفاصيل ربما تحدث مع أي لاعب، أما بالنسبة له فقد كانت مجرد ومضات في سلسلة طويلة، أهم حلقاتها هي قصّة الحب التي عاشها وأخذته نحو الهاوية والاعتزال والغرق في الديون، بعدما كان يتقاضى أجورًا خياليةً آنذاك. هذه التقلبات الحادة والتباينات المدهشة دفعت الروائي الكبير إحسان عبد القدوس صاحب رواية "الراقصة والسياسي" ليصوغه بمنطقه الدرامي في إحدى قصصه.
فالرجل الذي أمتع الجماهير في مستديرة السحر، أجهزت عليه عاطفته بقصة مكتملة العناصر الدرامية احتاجت كاتبًا فذًّا كي يسجل وقائعها. على شواطئ الإسكندرية التقت عيناه بعيني فتاة يونانية، وما إن تبادلا النظرات حتى اشتعلت القصة المترفة بالعاطفة والحماس والنهاية المأساوية.
سرعان ما خفق قلبه وهامت روحه بحبّها، قال لها لاحقًا أحبّك دون أن يعلم ما يخفيه له الزمن، فبعض المفردات لا يمكن أن تفقد ألقها مهما تعاقبت السنين، وتوالت العصور... هكذا، ظلّت هذه الكلمة تُغزَل على رموش العيون، وتشعّ من بريقها، ثم تدفع بدفقات من اللهفة، وتزيد من ضربات القلب الموغلة في نوع نادر من الصدق، وكما المفردات تبدو الطقوس أيضًا؛ وكأنها تحمي نفسها دائمًا من التهاوي، مهما قدم الزمان، وحتى لو مرت على بلاد مقفرة! لكن ربما تستحيل تلك المشاعر إلى نعيبٍ يودي بصاحبه إلى الخراب، إذا لم يسيطر على نفسه، وهو ما حصل مع كرم الذي قيل إن حبيبته كانت راقصة في الملاهي الليلية واستنزفته كليًّا لدرجة خطيرة، واستهلكت موهبته لمطرح متهاوٍ صار يعجز فيه عن إحراز هدف ولو في مرمى فارغ.
ثم تسرّب الدمار إلى أسرته، وانفصل عن زوجته ليلى لبيب، التي رفعت ضده دعاوى قضائية كثيرة للحصول على نفقة شهرية كبيرة وحكمت لها المحكمة بمبلغ شهري ضخم، عجز عن دفعه، حتى تراكم، وراح يصرخ في كل جلسة في محاكمة بأنه لا يملك ما يسدّ رمقه بعد أن انهارت حياته دراماتيكيًّا! ثم خرّ مغشيًا عليه وأُدخِل المشفى بعد تدهور وضعه الصحي، ليتلقّفه صاحب "لا تطفئ الشمس"، متخيلًا أن قدم اللاعب الشهير خانته في مباراة دولية هامة فاحتضن القائم وسقط داخل المرمى بدلاً من الكرة وحملوه إلى المستشفى ثم دخل في غيبوبة ليتذكر أمجاده القديمة! لتسهم الكرة ونجمها آنذاك بإغناء مُنجَز عبد القدوس الذي أثرى المكتبة والسينما العربية بأهم المواد المحفورة في وجدان المتلقي حتى زمن بعيد!