ليلة الثامن عشر من ديسمبر سينزاح هم اثني عشر عامًا عن كاهل الأمير الوالد حمد بن خليفة آل ثاني، وسيلتقط نفسًا عميقًا، ويدخل فراشه، ويضع رأسه على وسادته، ويدعو الله في سره أن ينام نومًا عميقًا هادئًا بعيدًا عن صخب المونديال.
طوال اثني عشر عامًا و الأمير الوالد يحسب يومه بدقة الساعات السويسرية، ويحصيه بأنفاسِ شهيقه وزفيره، ولم يترك نقيصةً إلا وأحصاها، ولا جديبة إلا رعاها، ولا عويصة إلا حللها وأفتاها، ويزن كلماته بأوقيات الزئبق، ليس في قاموسه مجال للنوم ولا للراحة أو التقاط الأنفاس، فبطولة كأس العالم ليست مجرد حدث كروي سيدور العالم في فلك قطر، ولكنها أيضًا تحدٍّ ورغبة جامحة في إحياء تراث أمة أعزّها الله بالإسلام واصطفاها لنشر رسالة رسوله الكريم -محمد صلى الله عليه وسلم.
منذ أن فازت قطر بشرف استضافة هذا المونديال والأمير الوالد حاضرٌ بعقله وقلبه ووجدانه وكيانه في كل مكان، وكان الأمر بالنسبة لنا -نحن العرب- مجرد ماء في صحراء السراب، أمّا بالنسبة للأمير الوالد، فقد كان علمًا ويقينًا وحلمًا يمكن ترويضه، ولسبب بسيط يتعلق بإيمان الأمير الوالد بأن المستحيل ليس قطريًّا.
مسؤولية شاقة صعبة معقدة تحمَّل تبعاتها بحُلوها ومرّها الأمير الوالد دون أن يطلب مساعدة، ولم يشتكِ من هول سنوات البذل والعطاء والبناء والتعمير وحرق الأعصاب، بل ظل الأمير الوالد فارسًا شجاعًا مُشهرًا سيف المثل: من طلب العلا سهر الليالي، وكان يردد دائمًا: من كان الله معه؛ فمن عليه؟!
سنوات طويلة تحمّل فيها الأمير الوالد ما لا يُطاق، والعيون كانت ترمقه وتترقبه من كل حدب وصوب، عيون المتعاطفين وعيون المتربصين أيضًا، وإذا كان الأمير الوالد بطل ملحمة المونديال قد تحمل بعض العرب فدانًا صبرًا، فقد تحمّل رذالة الغرب إلى ما فوق القنطار.
ليلة الأحد ستهدأ الدوحة من ضجيج عالم حطّ رحاله بكل ترحاب في درة الدُّرر دولة تُدعى قطر، وقبل أن يخلد الأمير الوالد إلى الراحة ويغتسل من هموم سنوات العمل والكفاح والدفاع عن الحريات، سيستعيد وعيه سيناريو سنوات العمل في الداخل والخارج.
اثنا عشر عامًا، ودولة قطر في مرمى الاستهداف العالمي، حيث قالوا عنها ما لم يقله مالكٌ في الخمر ولم يفتِ ذلك في عضد القطريين، ووزعوا الاتهامات يمينًا و شِمالًا، شرقًا وغربًا على أمل أن تتزحزح الصخرة القطرية، و لم يزدها هذا الاستهداف غير الأخلاقي إلا قوةً وصمودًا أسطوريًّا وتماسُكًا جبّارًا بحق انتزعته قطر من مخالب وأنياب الدول العظمى بالتصويت وليس بشراء الذمم.
لم يكن المونديال بالنسبة لقطر مجرد ملاعب وفنادق ومدن عائمة وكرنفالات بلون الفرح فقط، لكنه كان مونديالًا لإعلاء ثقافة العرب وهويتهم وقيمهم وأخلاقهم، وكنا نركض خلف ذبذبات أنفاس الأمير الوالد وكأننا نخوض سباقًا ماراثونيًّا طويلًا مع جيل غربي جديد مُغرَّر به، يُعلِّمونه في البيت وفي المدرسة والملاعب كراهيةَ العرب، ويُروِّجون له أن المجتمع العربي مجتمع بدوي مُتخلِّف لا يعرف (بريستيج) الشوكة والسكين، و لا يتعاطى الأناقة والموضة ولا يحترم حقوق الإنسان.
وجدت قطر نفسها وحيدةً في مواجهة عاصفة وعنجهية الغرب بطباعهم وغرورهم وأبواق دعاياتهم بما تحتويه من شائعات طائرة وزاحفة، وكان لا بد لقطر أن تمتص كل هذا الاحتقان الغربي غير المبرر، وتُحوِّله إلى طاقةِ تحدٍّ خارقة، وليس هذا فحسب، بل قد قُدِّر لقطر أن تحمل الأمانة الأخلاقية التي اشتكت منها الجبال وتُدافِع بكل ما أوتيَتْ من قوة عن مفاهيم تعضُّ عليها بالنواجذ، التزامًا بالعادات والتقاليد وتعاليم الدين الحنيف.
لن ينسى الأمير الوالد ما صاحب تلك السنين من حروب نفسية واستفزازية لا تُطاق، وكم هي المرات التي شنقوا فيها الحلم العربي على أعمدة الصحف العالمية ومواقعها الإلكترونية زورًا وبهتانًا؟! وكلما خرجت قطر من حفلة شنق؛ أدخلها الحاقدون حفلة شواء جديدة.
سنوات هي بعمر جيل هذا المونديال ودولة قطر تتلقى الضربات من كل مكان، سواء من الذين صفّقوا لفوز ملف قطر في زيورخ ورماد قلوبهم يُخفِي نارًا مستعرة، أو أولئك الذين انهزموا وتواروا أمام روعة ملف قطر خجلًا وكسوفًا.
كان الأمير الوالد يدرك بحدسه وبخبرته ووقاره السياسي وحاسّته الرياضية أن الحرب النفسية ستزداد ضراوةً؛ كلما أنجزت قطر مشروعًا، فقد كان الرد القطري على فوضى حواس الغرب وجنونهم مُزلزِلًا بصورة عملية وعلى أرض الواقع.
ومع كل مُنجَزٍ تستعر الحرب النفسية ضد قطر أكثر و أكثر، و يُكشّر الانتهازيون عن أنيابهم النتنة وهم يهتفون بما لا يعرفون، وبدا وكأن الغرب جَنّ أو فقد عقله؛ لأن الاتهامات الساذجة التي أمطروا بها دولة قطر لم تكن سوى محاولات بائسة يائسة لذر الرماد في العيون.
مضحكٌ جدًّا أن الدول الغربية حاولت (عجمنة) و(غربنة) المونديال بكل السبل وبكل الطرق؛ لسرقة هوية الحلم العربي، أمريكا تريده على مقاسها، وبريطانيا تريده على كيفها، وألمانيا تريده دعايةً لنزواتها الشيطانية وأهدافها غير الأخلاقية، وهكذا دواليك.
و مع كل مرحلة، تتلون الوجوه القبيحة و"تتمكيج" بحقٍ يُرَاد به باطل، الأنظمة القمعية التي جاءت على ظهر دبّابة تطالب القطريين باحترام حقوق الإنسان، والديكتاتورية التي لا تحترم دينًا ولا أممًا تطالب بمحاكمة قطر؛ لأنها فرضت العمل في أجواء غير صحية.
باختصار شديد، كان الأمير الوالد بذكائه وفطنته وحسّه السياسي الرفيع يعلم أن الغرب يريد مونديالًا على شاكلته، يتكلم بلغته، ويتدثر بعاداته، ويلبس الموضة الغربية، ويعتنق كل ما يخالف شرعنا وهويتنا وتراثنا وديننا، وكانوا يريدون (عولمة) المونديال وتعريته من كل مفاهيم منطقة الشرق الأوسط، وكانوا يريدونه كمسمار جحا في خاصرة دولة قطر.
آواه.. أيها الأمير الوالد! فقد كانت سنوات شاقة وصعبة ومرهقة بحق، وصبرتَ فيها صبرًا طويلًا مقتنعًا بأن الصمت قبل أن يكون من ذهب، فهو أيضًا سلوك ديمقراطي راقٍ، سنوات عاصفة قاومَتْ فيها قطر واستبسلت واستأسدت وهي تحمي حلمنا العربي من نقيق يتساقط من كل الجهات والجبهات، سواء من المتحضرين الذين يَدّعون وصلًا بحقوق الإنسان، بينما حقوق الإنسان لا تُقِرّ لهم بذلك، أو مِن فرسان صحافة العرض والطلب الذين يعبدون تحريف الحقائق وطمسها والنيل من أرقامها.
لو أن الذين حاربوا قطر وركبوا موجة تشويه الواقع من الأتقياء الأنقياء في فنون الحريات والديمقراطيات؛ لهان الأمر ولأخذنا انتقاداتهم على محمل الجد، لكنها جاءت -بكل أسف- جوفاء من حاقدين وأصحاب سوابق هُم آخِر مَن يعطي دروسًا أو مواعظ في العدل والمساواة، وآخر مَن يحق له الكلام عن الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان.
وكلما اقترب العرس العالمي وباتت قطر قاب قوسين أو أدنى من أن تصبح محورًا للكون؛ يرمونها بأحجار الحقد والكراهية، وفي كل مرة كان الأمير الوالد يبتسم بثقة فارس لا يشق له غبار ولسان حاله يقول ما قاله المسيح لأهل أورشليم:
مَن كان منكم بلا خطيئة؛ فليرمها بحجر.
الذين تضايقوا من استضافة قطر لمونديال العالم واستخدموا ورقة حقوق الإنسان للنفخ في مخلفات رمادها ليس لهم -الآن وبعد أن كسبت قطر التحدي بالنقلة الشطرنجية الرهيبة (كِش ملك)- إلّا خياران أحلاهما مرير، إمّا الموت كمدًا بغيظهم، أو تشييد حائط للمبكى يذرفون على جدرانه ما تبقى لهم من حفنة دموع وقحة.
ليلة الثامن عشر من ديسمبر، سينفض الأمير الوالد عن نفسه كل ذلك الغبار وسيضحك أخيرًا وكثيرًا؛ لأنه نجح بامتياز في إقناع شعوب العالم بأن العرب أصحاب حضارة وثقافة ودين وتقاليد، ولن يتنازلوا عنها قيد أُنملة مهما كانت الإغراءات والمغريات.
ليلة الثامن عشر من ديسمبر، سينام الأمير الوالد ملء جفونه عن شواردها وسيترك للذين حاولوا النيل من دولة قطر حرية الاختصام، وسيخلد الأمير الوالد للراحة وينام دون أن يزعجه نقيق الغرب من متحضرين ومتخلفين.
سمو الأمير الوالد.. شكرًا لك؛ لأنك عانيت من أجلنا الكثير، وصرفت من صحتك وبيت مال دولتك الغالي والنفيس من أجل تحقيق حلم منطقة شرق أوسطية بدا لنا مستحيلًا، شكرا لأنك تحمّلت بالنيابة عن الشرق الأوسط كل حماقات الغرب وكل ترهاتهم ذات الطقوس المتقلبة والمتلونة.
شكرًا لك لأنك بهذا الإنجاز العظيم الذي يعد فتحًا مبينًا في تاريخنا العربي المعاصر رفعت رأس كل العرب من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، وأتحت لنا بهذا الانتصار العربي الخالد فرصة التقاط صورة تحت الراية المنصورة.