بعض النظريات التي انتشرت خلال مونديال قطر الأخير كانت تثير الشفقة فعلاً، خاصةً عندما كانت تدّعي بتثاقف مريب، أن كرة القدم لم تقدم شيئًا للبرازيل مثلًا، كبلد فقير وقد حمل كأس العالم خمس مرات.
طبعًا غالبًا يجهل هؤلاء بأنه عندما وصلت كرة القدم إلى البرازيل على يد طالب اسمه تشارلز ميلر في القرن التاسع عشر، يوم عاد من بعثة دراسية في إنجلترا يحمل كرتين وكتابًا عن قوانين اللعبة، ليتمكن بعدها البرازيليون من تحدي الدستور الذي كان يحرم معظمهم من أدنى حقوقهم، وصارت الكرة ملاذهم الوحيد المتاح للجميع قبل أن يقودهم أسطورتهم الأسمر بيليه إلى حمل كأس العالم، في وقت كان يرزح السمر تحت وطأة العنصرية، عدا عن قدرته مع رفاقه في نادي سانتوس المحلي، من تحقيق هدنة بحرب نيجيريا الانفصالية سنة 1967، وقائمة المنجزات الشبيهة تطول داخل بلد السامبا وخارجها.
كما أن هناك عملًا إنسانيًّا وخيريًّا وتنمويًّا وفنيًّا وتجاريًّا وحيويًّا وداعمًا للدخل القومي يأسسه ويديره في كثير من الأحيان لاعبو "الفتبول" البرازيليون من: الراحل بيليه إلى الظاهرة رونالدو والساحر رونالدينيو وصولًا إلى فينيسيوس ونيمار ورودريغو وآخرين، عدا عن أنهم يشكلون بنية تأسيسية لنهضة شاملة لأسرهم ومدنهم ومجتمعاتهم ومحيطهم المعدم تمامًا قبل كرة القدم! بلد مساحته 8 ونصف مليون كيلو متر مربع، وعدد سكانه حوالي 210 ملايين نسمة، فيها 16 ألف لاعب محترف و772 ناديًا محترفًا أيضًا.
كما أن أزقتها عبارة عن ملاعب لعشرة ملايين طفل يلعبون الكرة, فإذا أراد أحد الأندية أن يبحث عن موهبة واعدة ارتاد كشّافوه تلك الأزقّة الفقيرة. على هذه الحال فإن المحور الجوهري فيها حتمًا سيكون بدون أدنى شكّ كرة القدم! ومع ذلك هناك من كان وما يزال يطرح تساؤلاته بسذاجة وسطحية شديدين؟!
وربما لمفهوم وعبرة قصة خيسيوس عامل النظافة الذي تحوّل إلى نجم كروي عالمي في الدوري الإنجليزي والمنتخب البرازيلي، وإشارة الهاتف التي يعبر بها حتى اليوم كلما أحرز هدفًا! هذه وحدها تفوق كل روايات الكوكب صدقًا وسحرًا وانتصارًا للظلم وتمكين الحق وتأكيد فكرة أن لكل مجتهد نصيبًا!
في سياق مشابه، ولكن على ضفة ثانية، فمهما علا شأن البرازيلي وتوسعّت مداركه، وبنى لنفسه مكانة مرموقة، فلن يكون غريبًا إيمانه بكرة القدم. لكن أن يجدها تحدد ثقافة الشعوب، وأن «عظمة البرازيل تسكن بين أقدام الموهوبين في تلك اللعبة» فهذا يخصّ الروائي البرازيلي جورجي أمادو دونًا عن غيره، والذي يرى أنهم كشعب «مخلوق لتلك اللعبة وهى مخلوقة لنا هي تسلية الفقراء ومتعتهم».
والرجل -لمن لا يعرف- وُلد في منطقة مسيّجة بمزارع الكاكاو في باهيا في العاشر من صيف لاهب من شهر آب أغسطس عام 1912، وتوفي في السادس من نفس الشهر الحار سنة 2001 وهو روائي وصحفي وسياسي برازيلي، صار بعد انتشار أعماله من المفضلين لدى مواطنيه، بذريعة اتباعه بشكل مدروس بعض أشكال الصعلكة، وطعم التقاليد العريقة في مسقط رأسه، ولاية باهيا، التي كانت مسرح كل رواياته، ونماذج من شعبها هم أبطالها! وقد وصل لدرجة أنه صار الأكثر شهرة في فترة من الفترات.
علمًا أنه انصرف نحو الشغل الأدبي منذ أيام المدرسة وبدأ الكتابة، ليؤلف مع عدد من أصدقائه في مسقط رأسه «جماعة الحداثة» وفي عام 1935 أنهى دراسة الحقوق في ريو دي جانيرو؛ ولكنه لم يتسلم شهادته، إذ كان قد دخل حينذاك عالم الأدب وبدأ يشق طريق النجاح بمجموعة من المؤلفات، منها «بلاد الكرنفال» (1931) و«كاكاو» (1933)، و«عَرَق» (1934) و«بحر ميت» (1936) و«قباطنة الرمال» (1937).
وقد نال الكاتب الشهير جوائز رفيعة عدة، وترشّح مرات عدة لنيل جائزة نوبل؛ لكنه لم يحظ بها، ومع ذلك يقال بأنه لم يخسر الجائزة، بل هي من خسرته! كما دفع ثمنًا باهظًا لمواقفه الثورية المناهضة للديكتاتورية بالنفي والسجن، لدرجة أنه أكثر من قبع خلف القضبان من مثقفي بلاده. وقد أسهمت مؤلفاته بإطلاق الأدب البرازيلي نحو العالمية، إذ تُرجمت أعماله لأكثر من 50 لغة، لدرجة قال عنه الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو: «إنَّ وفاته سبب كافٍ للحداد الوطني في البرازيل، وإن غاب أمادو؛ فكتبه ستبقى موجودة».
انشغال هذا الرجل إلى جانب أدبه بكرة القدم طبيعي للغاية، ليس فقط لأنه برازيلي، لكن لنشأته وسط مجتمع مسحوق، يجرّ تبعات الفقر ويعاني من ملحقات العوز، ويبحث بالفتيل والسراج عن منافذ تخلق له شيئًا عزز فكرة الوجود والمتعة معًا. هكذا، وامتثالاً لقاعدة ذهبية تقول إن الفن والأدب يجب أن يكونا مرآة للواقع، فقد اختار أمادو الاشتباك مع واقعه والغوص فيه للحد الأقصى، وراح يتعقّب أثر هؤلاء البسطاء من البرازيليين وكان دائمًا يردد بصيغة علنية وبطريقة المباهاة: «الفلاحون، لاعبو الكرة، عساكر الجيش، المجرمون، هؤلاء هم أبطال رواياتي».