يغمرُ الجيل الحالي الحظّ الوافر بمعايشة واحدة من أهم بطولات كأس العالم بالنسخة 22 التي تضيّفها دولة قطر اعتباراً من اليوم الأحد 20 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، في أمسية عربيّة خالدة لن تبرح الذاكرة لأزمنة طويلة كُلّما مرّت بفخرٍ عن تفاصيل البطولة الصغيرة والكبيرة على غرار البطولات المارّة، والتي نسعَد كثيراً حين نوثِّق مُجرياتها بأمانة للأجيال القادمة.
حظوظنا كبيرة، ونحن نشهد تغييرات نوعيّة ثانية على صعيد تكنولوجيا كرة القدم، التي أثارت سُخط أهل اللعبة والجماهير لعقود سابقة نتيجة أخطاء المُكلّفين بإدارة مبارياتها على مختلف خبراتهم، وهي أخطاء بشريّة طبيعيّة تتأثّر بعوامل نفسيّة وفنيّة، وتولِّدُ ضغطاً سلبيّاً مُتبايناً بين قُضاة الملاعب، فضلاً عن سلوك لاعبي الفريقين، وما يؤدّي إلى تهوّر بعضهم من مخاوفٍ لدى حكمٍ مهزوزٍ في حالة اتخاذه قراراً حاسماً لا يُعجِبْ الطرف المُتضرّر، ويُثير حفيظته.
الحكم الدولي السابق الإيطالي بييرلويغي كولينا، الذي استعان به الاتحاد الدولي لرئاسة شؤون لجنة الحُكّام، خَرَجَ للإعلام قبل أيّام بتصريحٍ طَمْأنَ فيه أسرة كرة القدم بأنه نجح مع فريقه الاستشاري بدعم جديد من قبل تقنية الفيديو للحكم ومساعديه تكشِف عن حالة التسلّل بدقّة كبيرة آلياً، وتمنع الوقوع في الخطأ أو الشكّ.
وتأتي جهود لجنة الحُكّام في الاتحاد الدولي لتذليل معاناة الحكم المساعد تحديداً بعد نجاحها في تطبيق تقنية (video assistant referee) قبل خمس سنوات في النسخة العاشرة من بطولة كأس القارّات التي ضيّفتها روسيا للفترة من 17 يونيو/ حزيران إلى 2 يوليو/ تموز عام 2017، ومن ثُمّ إقرارها تنفيذيّاً من قبل الفيفا في 16 مارس/ آذار عام 2018.
وطُبِّقتْ التقنية أوّل مرّة في مونديال روسيا، مع أنها واجهت مُعارضة شديدة من بعض المُحلّلين في أوروبا بذريعة أن الحملقة في لقطات (VAR) تُسبِّبُ توقُّف المباراة واجتهاد الحكم في اتخاذ القرار بقناعة غريبة أحياناً، رغم مشاهدتهِ اللقطة أكثر من مرّة.
للتاريخ، ستكون قطر ثاني دولة بعد روسيا تشهد تطبيق تقنية جديدة في عالم كرة القدم، وأول دولة يُجرّب فيها اصطياد التسلّل من خلال (مُستشعر وحدة قياس داخل الكرة) يضع حكم الفيديو أمام مشاهدة متأنيّة لحالة التسلّل الصعبة التي لا يُمكن للحكم المساعد ولا لحكم الساحة القدرة على بيان صحّتها من عدمها.
ومع ذلك يرى العديد من مسؤولي التحكيم في الفيفا أن تطبيق التقنية في مونديال قطر جزء مهم من عمليّات التجريب المُستمرّة لها منذ انتهاء المونديال النسخة 21، ما يضعهم أمام مسؤوليّة كبيرة في حالة بقاء الجدل أو زيادة الأمر تعقيداً عندما يخفق كاشِف التسلّل "شبه الآلي" في إنصاف فريق ما.
الأمر ليس يسيراً في عالم كرة القدم، الغارِق في تحدّيات اللاعبين والمدرّبين والجماهير، لا سيما أن مواجهات كأس العالم أشبه بمعارك شَرِسة لفرض قوّة منتخب ما يتسلّحُ بجمهورهِ وخبرتهِ وتاريخهِ، وبالتالي من الصعب أن تضيف التقنية الثانية المُبتكرة من القسم التكنولوجي في الاتحاد الدولي أعباء ذهنيّة للحكم كلّما شعرَ بأن قراره محلّ طعنٍ فوري.
وسيكون الحكم على تواصل مع غرفة تقنية الفيديو التي يمكنها مناداته من الشاشة الصغيرة لكي يُدقِّق ويُقرِّرَ في أمور مختلفة تخصُّ اجتياز الكرة خط المرمى أم لا، ومنح ركلة الجزاء أو تحرُّك الحارس أثناء تنفيذها، وكذلك سوء سلوك لاعب يستحقُّ البطاقة الحمراء، وكل حالة تتطلّب مُراجعة آنية من الحكم لا تستغرق أكثر من نصف دقيقة أو دقيقة أحياناً للتثبّت أو التراجع عن قراره أو إعلانه له من لحظة قناعتهِ بوضوح الموقف في اللقطة.
إرهاصات عمليّة التحقّق هذه، تستلزم رؤية ثاقبة، وصبراً حكيماً، وهدوءاً تاماً من الحكم، الذي يُعرَفْ بأنه صاحب السُلطة المُنفرِدة، ويتقمّص "الديكتاتورية" المطلوبة أحياناً لفرض الإجراء الانضباطي بإطار القانون ليمنع بعض اللاعبين من خرق اللائحة.
وهذه العمليّة غير مأمونة العواقب -شِئنا أم أبينا- حتى لو تظاهر الحكم بالسيطرة التامّة على كاريزماه أمام الفريقين والجماهير وأجهزة الإعلام، لأنها تقوّض الكثير من معالم قوّته وتُكبّلهُ مُجبراً للانقياد نحو تقنيتي (الفار والتسلّل) فماذا بقي له من رأي حُر يتحمّل مسؤوليّته ولا يخضع للتحرّي التكنولوجي؟!
بقدر طموح جميع متابعي كرة القدم بأن تتخلّص من ظلم التحكيم وضياع جهود الفريق خلال موسم كامل أو فقدان بطولة تأهيليّة مهمة، فإنهم يبدون خشيتهم من التحديث الآلي لمفاهيم حملة صفّارة المباراة وتحييدهم رويداً رويداً في النُسخ المونديالية الأخرى، في ظلّ الابتكار المتواصل من الفيفا الذي قد يُفاجئنا باندثار الحاجة لحكم وسط الساحة أو جانبيها أو كليهما وتتم إدارة اللقاءات الكرويّة عبر التقنيات والمُنبّهات.
ومن الممكن أن تمتد تكنولوجيا التحكيم لتشمل لاحقاً تحويل خطوط الطول والعرض في المستطيل الأخضر وكُرة الجلد المنفوخ ذاتها تحت سيطرة تقنية مركزيّة موحَّدة تنتفي معها حاجة الحكم أو مساعديه للركض والتركيز والانفعال النفسي؛ تماهياً مع ردود أفعال اللاعبين وأنصارهم، ليكون بإمكانهم الاتجاه صوب مقاعد المدرّجات ليستمتعوا بالمباراة ويتجنّبوا وقوع الفأس.. ووجع الرأس!!