المحطَّةُ الأخيرةُ لِكُرةِ القَدمِ في قَصيدةِ النجفي

بواسطة Salwa.Alkheir , 16 أبريل 2023

نتابع رحلتنا الشائقة مع قصيدة النجفي "لعب الكرات"، والتي تحط اليوم رحالها في محطتها الأخيرة، بعد أن رأينا كرة القدم في أبيات القصيدة السابقة في صور مختلفة ترتدي حُللاً عجيبة وبديعة، إذ يُكمل الشاعر فيقول:

مَـن يـَحـظَ فِـيـهَـا فـَارَقـَته بِلَحظَةٍ
مِــثــل السـَّعـادةِ مـَبـدأٌ وخِـتـامُ

كم يبدو هؤلاء العاشقون الذين ملأ الولهُ قلوبهم مساكين في الساحة الخضراء، فكرة القدم بوصفها المحبوبة التي يسعون وراءها تُناورهم وتزيدهم احتراقًا في نار الشّوق التي لا تنطفئ؛ فمن حظي منهم بقربها ووصلها سرعانَ ما تكوي قلبه بفراقها بعد لحظةٍ من الوصال؛ لتقذف به في أتون شوق أشدّ مرارة وحرقاً؛ فمن المعلوم أن مَن ذاق طعم الوصل اضطرم فيه الشوق أضعاف ما كان عليه ما قبل الوصال.

وما أشبه هذه اللحظة التي تمنّ فيها كرة القدم على عاشقها الولهان بقربها ووصالها؛ بالسّعادة بأصنافها وأنواعها كلّها في هذه الدنيا، فهي عاجلةٌ سرعان ما تنقضي، فما أن تبدأ حتى تُختتم مهما كانت طويلةً، ولله درّ العرب إذ قالوا: "سَنَةُ السّعدِ سِنَة، وسِنَةُ الهمّ سَنَة".

ويسير شاعرنا قُدماً في وصفه لكرة القدم وهي في الملعب، وكأنه يرسم لنا لوحةً من جمالٍ ساحرٍ، أو يصوّر لنا فيلمًا بالغ البراعة بنقل الأحاسيس والمشاعر الدّاخليّة لكلّ من الكرة واللاعبين على حدٍّ سواء، إذ يقول:

مـا بـَيـنَ أَرجُـلِهِم هَوَتْ فَغَدَت بِهَا
يَـــتَـــداوَلُونَ كَــأنـَّـهــا الأيَّــامُ

ما إن تهوي كرة القدم بين أقدام اللاعبين حتى يتقاذفونها، وتبدو وهي بين أقدامهم كأنها الأيام في كَرِّها وتداولها، وقد قالت العربُ: "الأيام دول، فيومٌ لنا ويومٌ علينا، ويومٌ نُساء ويومٌ نُسرُّ"، وهذا ما قصده الشّاعر أنّ اللاعبين يتداولون الكرة كأنها الأيّام، فهو تداولٌ يجعلها كالأيام في مسرّاتها وأحزانها، فانتقالها بين أقدام اللاعبين هو سرورٌ لبعضهم وحزنٌ لخصومهم من الطرف الآخر، وسرعان ما ينتقل الحزن إلى أهل السرور منهم بها، ويغدو السرور حزنًا عند من سعدوا بها قبل لحظات، وقد استحضرني عند قراءة هذا التشبيه قوله تعالى في سورة آل عمران: "وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ".

ومَن يدري؟ لعلّ الشاعر استحضر هذه الآية الكريمة فاقتبس منها صورته البليغة، ولعلّه استعار الصورة من مخزونه الشعري والثقافي، فقد جاء في قصيدة الشّاعر الأندلسيّ أبي البقاء الرنديّ في رثاء المدن الأندلسية قوله:

لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ
فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ

هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ
مَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ

ثمّ ينتقلُ النّجفيّ ليصوّر لنا حال اللاعبين وهم يتراكضون خلف كرة القدم كي يفوزوا بها أو بوصلها لدقائق تمكّنهم من تحقيق ما يصبون إليه منها؛ فيقول:

مِـثـلُ السُّـكَـارَى هَـائِجِـينَ ومَا لهُم 
 إلَّا التَّـنـافُـس فِـي النَّجَاحِ مُدَامُ

إنَّ من ينظرُ إلى اللاعبين وهم يركضون بحركات غير متوازنة وغير منتظمة، سرعان ما يفسر هذا الهياج بأنه نتيجة السُّكر الذي استبدّ بهم...

فهم مثل السُّكارى بالفعل؛ لكنّ خمرتنهم التي استبدت بهم هي تنافسهم على الكرة لتحقيق الفوز، ولطالما كان التسابق إلى النجاح هو الخمرة المعتقة التي تستبدّ بصاحبها فتجعله مقدامًا إلى درجة الهياج الصّارخ الذي لا يمكن التحكّم به بسهولة.

بَـيـنَـا هُـم يَـتـَضَـاحـَكُونَ إذَا بِهِم
يَــتَــهــاجـَـمُـونَ كَـأَنَّـهُـم أَخـصَـامُ

إنّ المرءَ ليَعجب من فعل هذه الكرة التي أسكرتهم، فتجعلهم يضحكون وكأنهم أشدّ النّاس حبًّا وقربًا لبعضهم، وما هي إلّا لحظات حتّى تشعر وكأنهم خصومٌ ألداد يهجم بعضهم على من كان يضاحكه قبل لحظات ليفتك به وينتقم منه؛ وما هذا إلّا من تأثير خمرة التنافس التي شربوها جميعًا حتى الثّمالة!

لَيـتَ الوَرَى كَـاللَّاعِـبـِينَ طَبائِعًا
يَـــتـــزاحَــمُــونَ وكُــلّهــم بَــسَّــامُ

هنا يتمنّى الشاعرُ ويمدح حركة اللاعبين في آن واحد؛ إذ يتمنى لو كانت حال البشريّة كلها كحال اللاعبين في تخاصمهم وتدافعهم، فهم يتخاصمون بحُبٍّ، ويتدافعون بوجوه مبتسمة ونفوس راقية وأخلاق عالية؛ فلو أن جميع البشر كانوا يحملون هذه الطبائع في تزاحمهم وتنافسهم لما رأت البشرية حروباً ولا دماراً، ولما رأينا الدماء التي تسيل نتيجة التنافس غير الأخلاقيّ المدفوع بالأحقاد التي لا تنتهي.

كم كانت لتكون البشريّة جميلةً لو أن الناس جميعهم يحملون طباع اللاعبين في الساحة الخضراء، يتنافسون لكن بِحُبّ، ويتصارعون لكن بأخلاق، ويتسابقون لكن بِودٍّ، ويهاجم بعضهم بعضًا لكن ضمن قوانين أخلاقية لا تؤذي أحدًا، ولا تسمح لأحدٍ أن يهتك حرمة أحدٍ آخرَ أو كرامته الإنسانيّة.

لا يـَحـمِلُونَ الحِقدَ إنْ يجرَحْ بهِم
أحـَـــــدٌ وإنْ أودَت بــــــهِ الآلامُ

هكذا هم اللاعبون؛ لا أحقاد في قلوبهم ولو نالهم تدافعٌ وتجريحٌ من خصمٍ داخل الملعب، ولا تسكن البغضاء قلوبهم وإن تعرّض لهم أحدٌ بخشونةٍ أوقعتهم أرضًا أو تسبّبت لهم بآلامٍ جسدية.

ماذا كانت ستخسر البشريّة لو أنّها نشرت بين الناس شعوبًا وقبائل وأفرادًا ومجتمعات هذه القيم الرفيعة والمعاني السامية والشّمائل النبيلة التي يعيشها اللاعبون داخل ملعب كرة القدم؟

إنّ البشريّة اليوم أحوج ما تكون إلى نبذ الأحقاد وتمكين القيم الأخلاقيّة الرفيعة، وفي لعبة كرة القدم من الأخلاق النبيلة ما يصلح تعميمه على البشرية لتنعم بالسلام الذي غدا أعزّ مفقودٍ في هذا العصر الحزين!

وهكذا نصل إلى نهاية تطوافنا مع هذه القصيدة البديعة التي سطرها شاعرنا أحمد صافي النّجفي بروحٍ وثّابة وخيال جامح ونفسٍ تواقة وذوق رفيع، فسقانا من جميل شعره شرابًا حلوًا تلذّ به الأسمار.

Image
صورة أرشيفية لكرة القم في الشباك (Getty)
Live updates
Off
Opinion article
On
Source
Show in tags
Off
Caption
صورة لكرة القدم في الشباك (Getty)
Show Video
Off