من أعمق أعماق التاريخ الفرعوني برز من رماد رفاته فارس مصري مغوار مهاب يحمل غمدًا واحدًا، لكنه يطفح بكل السيوف الفرعونية المسلولة.
اقتحم الفرعون محمد صلاح القارة العجوز ببراعة فارس لا يشق له غبار، وقبل أن يصعد القمة الليفربولية الشماء ويترك خلفه ريشًا للخلود، آثر أن يعيد الفاتح كتابة التاريخ الليفربولي من جديد باللغة الهيروغليفية.
عندما حط طائر العنقاء المصري محمد صلاح رحاله على القبة الحمراء المهووسة بأمجاد فخرها ليفربول، كان هذا الطائر يتأرجح بين رحلة أوروبية مليئة بدراما التناقض، وبين وعي قزاحي يوزع أسراره وأشواقه على مدينة ليفربول ببساطة السهل الممتنع.
لم يكن يحتاج هذا الفرعون الحكيم والمتفجر في ملاعب الإنجليز كالديناميت سوى لخمسة مواسم ليحطم كل أرقام عزيز قوم الإنجليز، ويحيل أرقام رموزه على مدار قرن إلى هشيم تذروه الرياح.
وعندما سجل محمد صلاح هدفين من الأهداف السبعة التي فاز بها ليفربول على غريمه اللدود الذي ينازعه الأرقام والمكانة في بريطانيا العظمى كلها، وأعني بطبيعة الحال مانشستر يونايتد، ثم تلا هذا السبق بهدف في مرمى مانشستر سيتي، كان الفاتح الفرعوني يحتفل وحيدًا وكأنه داخل "كرنفال" أفراحه كالأمواج العاتية، وسعادته كأنها عرس أحمر يسر الناظرين.
أنعم الإنجليز على الاسكتلندي كيني دالغليش، نجم ليفربول السابق، بلقب (الكينغ)، رفعوه ببطولاته وأهدافه إلى مكانة (سير)، ومنحوا القائد السابق ستيفن جيرارد كل الألقاب، وأغدقوا على روبي فاولر بكل الأوسمة الممكنة، فكيف سيتعاملون الآن مع الفاتح محمد صلاح وقد هرب بكل مفاتيح مغارة الأرقام، مغلقًا برقمه القياسي تلك المغارة بالشمع الفرعوني الأحمر والفلين المصري العتيق.
عظماء ليفربول على مدار أكثر من قرن ونصف لا يطويهم النسيان، والذين أطربوا عشاق الليفر وصنعوا الأفراح في الملاعب وقدموا كل ألوان وأصناف المتعة لجماهير المدينة الليفربولية الحالمة لا يغادرون الذاكرة، تتداولهم الألسن دائمًا ويحتفي بهم التاريخ في كل مناسبة، فكيف سيكون حال مدينة ليفربول بعد أن حطم صلاح كل الأرقام وصعد برقمه القياسي 130 هدفًا ليحتفل وحيدًا فوق أعلى قمة جبل في العالم؟
لم يعد تاج مملكة ليفربول من حق (الكينغ) كيني دالغليش، ولم يعد الرقم القياسي المحلي في عهدة الهداف الماكر روبي فاولر، لقد تجاوز الفاتح محمد صلاح كل الأرقام ولم يعد هناك من يستحق لقب البرنس الكينغ و(السير) والهداف التاريخي لليفربول سواه، ويا ما في الجراب يا حاوي.
عندما وقع محمد صلاح لليفربول موسم 2017-2018 تفجرت موهبته بصورة مرعبة، فكشف مبكرًا عن موهبة هادرة وأداء خلاب يسكنه كل السحر، لم يتأخر كثيرًا في أن يصبح نبض ليفربول وبندول ساعته، سريع كالريح، رشيق كالفهد، يناور بخبث الثعالب، وينفلت من عقاله كالومضة، إنه هدية القدر الذي انتظرته مدينة ليفربول منذ أن علق هداف ليفربول الويلزي إيان راش حذاءه على أجراس العاصفة.
مع محمد صلاح استعاد ليفربول مزاجه الذي افتقده طويلًا، فأصبح مع هذا الفاتح يطوي المسافات ويحولها أمام منافسيه إلى جحيم، ولم يكن أمام منافسي (الليفر) سوى البحث عن وسائل ليست تقليديه لإيقاف سطوة هذا النفاثة الذي لا يهدأ ولا يكف عن النبش في مقبرة التاريخ الأحمر.
وإن تسجل 130 هدفًا في أصعب دوري في العالم، وفي ظرف خمسة مواسم لا غير، ثم تقودك هذه النسبة المرتفعة من الأهداف لتزيح الملك روبي فاولر وتتبوأ عرش مملكة ليفربول الحصينة، فهذا السبق المدهش ليس كأي سبق، وليس كأي إشهار، لكن محمد صلاح فعلها وكأنه استخدم زانة فرعونية ليقفز بها على كل الأرقام.
هكذا حال محمد صلاح في أصعب وأقسى وأعنف دوري في العالم، يضعونه في قفص الرقابة الصارمة، يتجسس العسس على نبضات قلبه، يحصون أنفاسه، يضيقون عليه الخناق ويعتقلونه في مساحة قبر، لكنه ينفلت منهم كالزئبق، وبفضل براعته يخترق بسهولة أقوى الدفاعات ويصل إلى الهدف في ومضة عبقرية يُحسد عليها حقًا.
عندما أطل محمد صلاح بقمره على الدوري الإنجليزي غيب كل النجوم، اشتد ساعده مع الحمم التي تصلبت، لم تأبه أشرعته للعاصفة، وفي لحظة تجلي رمت شطآن صلاح بفيروزها، فحلق مع ليفربول تارة بجناحي نورس وتارة أخرى بجناحي صقر.
كانت الوجوه الليفربولية متجهمة وفي حالة قطيعة مع الدوري الإنجليزي لسنوات طويلة هي بعمر الفتى المصري المدهش، لم يراهن على تألق صلاح مع ليفربول إلا النادر والنادر لا حكم له.
ومع المدرب الألماني يورغن كلوب لم يكن صلاح بحاجة إلى التكيف مع الأجواء، لقد دخل مباشرة في صلب الموضوع دون مقدمات، تاه قطار الزمن ونسي سكة المعاناة السابقة مع تشيلسي وجوزيه مورينيو، فعرج بسرعته الفائقة على كل الضيعات، حاملًا في قدمه اليسرى الساحرة سمًا زعافًا.
ودارت الأيام ومرت الأيام بسرعة البرق، وفجأة أعلنت مدينة ليفربول سبقها إشهارًا عالميًا فريدًا ليس كأي إشهار، لقد حنط الطبيب الفرعوني محمد صلاح كل أرقام أساطير ليفربول، وأحالها جميعا على المعاش، ونسفها في اليم متربعًا على القمة العالية وحيدًا برصيد 130 هدفًا قابلًا للزيادة.
بدأت حكاية محمد صلاح مع الأرقام من موسمه الأول 2017-2018 عندما سجل رقمًا مذهلًا في البريميرليغ بلغ 32 هدفًا.. رقم خول له الفوز بالحذاء الذهبي، وهذا الفوز الذهبي تكرر بعد ذلك مرتين موسمي 2018-2019 برصيد 22 هدفًا و2020-2021، بينهما 19 هدفًا موسم 2019-2020، ورغم أن ليفربول خسر السباق على لقب الدوري لصالح مانشستر سيتي الموسم الماضي، فإن محمد صلاح حافظ على لقب الهداف برصيد 23 هدفًا بالتساوي مع مهاجم توتنهام هاري كين.
ولأنني مغرم بالإحصائيات وطبيعتها التي تفجر الدماغ، فإن الفاتح صلاح سجل 74 هدفًا على ملعب الأنفيلد رود و56 هدفًا خارجه، واستعان بقدمه اليسرى في 102 مناسبة، مقابل 20 هدفًا لقدمه اليمنى و7 أهداف رأسية.
ولحكاية أهداف صلاح توصيف آخر، فقد سجل 122 هدفًا من داخل منطقة الجزاء، و8 أهداف من خارجها، و18 هدفًا من ركلات جزاء، أما الخصم المفضل لصلاح في مشواره نحو بلوغ سدة الحكم في ليفربول، فكان مانشستر يونايتد، فقد أودع في شباكه 10 أهداف.
يبدو كما لو أن هذا الفاتح المصري شيد بأهدافه القياسية هرمًا فرعونيًا رابعًا يصل ارتفاعه إلى 130 هدفًا، وبوسعه في وقت قصير قادم أن يرتفع أكثر وأكثر ويفرض نفسه هرمًا رابعًا، ليطغى في الارتفاع على أهرامات خوفو وخفرع ومنقرع.