عندما رفع قائد الأهلي المصري وحارسه الأمين "محمد الشناوي" الكأس الحادية عشرة على مستوى دوري أبطال أفريقيا في الدار البيضاء، سألت نفسي:
- لماذا يحدث هذا مع النادي الأهلي دون غيره؟
- لماذا حياة هذا النادي كلها بطولات وتتويجات وكرنفالات وأفراح حتى الموت؟
- لماذا الحمض النووي لبطولة دوري الأبطال لا يعترف إلا بأبوة النادي الأهلي دون غيره؟
- لماذا هو بالذات يملك ما لا يملكه الآخرون؟
- بأي ماء وسماد ترتوي تربة هذا النادي الناجح في فنون الإدارة الرياضية؟
- ولماذا هو النادي الوحيد الذي يصغي لنهر النيل العظيم، فيتجدد ويأتي بما لم تأت به الأوائل؟
بالتأكيد المسألة في هذا النادي الكبير الذي خرجت من عباءته جميع الأندية الأهلاوية في الوطن العربي، ليست فقط جينات يتوارثها الأبناء من الآباء مع تعاقب الأجيال فحسب، لكنها قد تكون مسألة كريات دم حمراء تسبح في الدم، قانونًا أحمر صارمًا يسري على الجميع ويضع النادي فوق كل الحسابات الشخصية والخاصة.
مسألة تعاقب الأجيال في النادي الأهلي تسير بدقة الساعات السويسرية، ففي الوقت الذي لا تزال فيه أندية أفريقيا والشرق الأوسط تقيس الإدارة الرياضية بظل الشمس غالبًا، أو بالساعة الرملية في أحسن الأحوال، نجد النادي الأهلي قد تجاوز هذا المفهوم بمبادئه وقانونه، وصار يسبق الآخرين بسنوات ضوئية كثيرة.
- هل أدلكم على الفرق الجوهري بين النادي الأهلي وغيره في الوطن العربي؟
حسنًا لن أفشي هنا أسرارًا حربية أو عسكرية؛ لأن الإجابة تتعلق بطبيعة الأشياء، ففي الأندية العربية والأفريقية يأتي رؤساء الأندية من فوق، وفي الغالب تلعب الوجاهة القبلية أو اللون السياسي دورًا في تحديد هوية هذا النادي أو ذاك، إلا النادي الأهلي، فجميع رؤسائه جاؤوا من تحت مظلة النادي، ومن وسط عامة الشعب، ولم يصلوا لسدة مجلس الإدارة إلا بعد أن كافحوا في الملاعب المفتوحة والصالات المغطاة.
والنادي الأهلي عندما يقرر الفوز ببطولة فإنه لا ينتظر معجزة من السماء، ولا يمارس طقوس دعاء الوالدين أو مناشدة قارئة الفنجان، فللأهلي وسائله غير التقليدية التي تبقيه نسرًا محلقًا فوق القمة العالية، من دون أن يكون من بينها الاستعانة بالعفاريت أو جن سليمان.
وإذا كان كلامي لا يقنعك وتشك في أن "سر الأهلي باتع"، فيمكنك استخلاص نموذجية الأهلي من صورتين معبرتين لا يمكن لعينيك التقاطهما إلا إذا نظرت للأهلي بعين الإعجاب.
الأولى: تتعلق برئيس النادي الكابتن محمود الخطيب الذي تخلى عن "برستيج" التتويج، مفضلًا تسليط الأضواء على رئيس البعثة الكابتن حسام غالي، ثم تلا هذا التنازل لقطة إيمانية معبرة حين ضبطته الكاميرات وهو يصلي في مقصورة الملعب ركعتي شكر لله.
والثانية: لحظة تنازل قائد الأهلي وحارسه "محمد الشناوي" عن ميداليته الذهبية لمصلحة زميله الحارس الواعد مصطفى شوبير، في مشهد جسد حقيقة التكافل بين اللاعبين، خصوصًا وقد كان شوبير نجم فريقه في مباراة الذهاب بالقاهرة.
الوصول للقمة سهل ومتاح بين الحين والآخر، لكن الاحتفاظ بها لسنوات وسنوات صعب وشاق، وعدد نادر من الأندية في العالم حققت هذه المعادلة الصعبة، وبدون مجاملة أو نفاق يمكن اعتبار النادي الأهلي الأنموذج الفريد في البقاء متمسكًا بالقمة طوال عمره المديد الذي يقارب 116 عامًا.
دعونا لا نذهب بعيدًا حتى لا ندخل النادي الأهلي في مقارنات مجحفة مع غيره، فالذين يعتبرون الأهلي ريال مدريد أفريقيا والشرق الأوسط يرون في الأهلي نسخة طبق الأصل من ريال مدريد في دنيا الإدارة الرياضية الناجحة والفاعلة والفعالة.
ومن يؤمن بأن الأهلي فصيلة نادرة لها ظروفها وواقعها الموضوعي، ويتعامل معه كما لو أنه ناد خال من العيوب، مخطئ بالتأكيد؛ لأن الأخطاء في النادي الأهلي موجودة فالكمال لله وحده، لكنها أخطاء سطحية لا ترى بالعين المجردة، سرعان ما يتم تلافيها، فتضمحل في مهدها قبل أن تطير إلى صحافة المتربصين بالأهلي، وما أكثر الكهوفيين الذين يخلقون من حبة الأهلي قبة، لكن من دون أن ينجحوا في اختراق منظومة الأهلي الإدارية.
هناك حقيقتان في النادي الأهلي لا يمكن لأي كائن من كان أن يقفز عليهما أو يمر عليهما مرور الكرام؛ الأولى: من الممكن أن تكون قويًا وذا نفوذ في بلدك وقارتك، لكن إذا دخلت في مقارنة مع النادي الأهلي ستشعر أنك أمامه لا شيء، وستسقط أمام موسوعة أرقامه بالضربة القاضية دون مقاومة.
الثانية: من الممكن أن تكون ناديًا غنيًا باذخ الثراء تلعب باليورو والدولار في مختلف ملاعب العالم، لكن حتى لو امتلكت مال قارون وجلبت كل نجوم الدنيا، فلن تبلغ مرتبة الأهلي يومًا، ولن تصل إلى ربع إنجازاته محليًا وقاريًا وعالميًا.
أحب دومًا أن أكون قريبًا من سطح النادي الأهلي؛ لأن مشاهدته لا تندرج على مخاطر صحية، كما أن الحياة الصاخبة في النادي الأهلي دليل حياة ووجود كما قال الفيلسوف ديكارت ذات يوم.
الأهلي فقط موطن الأفراح طارد للأتراح، يقبل الجميع على مبارياته بوجوه مبتسمة ونفوس يملؤها التفاؤل، فالمتعة الحمراء مضمونة، والفوز بعرق أبطاله مضمون لا نقاش فيه، وعندما تنتهي متعة التسعين دقيقة تتحول القاهرة إلى نافورة فرح حمراء لا نظير لها حتى في كتب ألف ليلة وليلة.
لماذا النادي الأهلي وحيد زمانه وفريد عصره وأوانه؟
السر الذي لم يعد سرًا أن غاية النادي الأهلي الكبرى بناء الإنسان المصري القادر على صنع مقومات النجاح، وفلسفة نادي القرن تنبعث من إيمان راسخ يقول بالصوت والصورة: إن المبادئ والوطنية جناحا النهضة ومفتاحا التألق الدائم على كافة الجبهات.
هناك أندية عربية وغربية لها تاريخ لا جدال في ذلك، لكنها عندما تقف أمام تراث وأمجاد سور أفريقيا العظيم (الأهلي) تشعر أنها أمام التاريخ نفسه وجهًا لوجه، من دون أن يكون في هذا التوصيف فسحة نفاق أو بساط مجاملة.
يرتدي الجميع روح النادي العريق بعيدًا عن تناقضات الطبطبة والمجاملة والتدخلات في الشأن الفني كما يحدث في أندية كثيرة لا ينقصها إلا الروح الحمراء الأهلاوية، فتذهب ريحها وتتشتت أيديها.
- هل تابعتم مباريات الأهلي في دوري أبطال أفريقيا خطوة خطوة ومباراة مباراة؟
- هل عشتم نفس القلق الإيجابي مع البداية المرتبكة والخسارتين من الهلال السوداني وصن داونز الجنوب أفريقي؟
- هل رأيتم كيف تجاوز الأهلي تلك البداية، متجاوزًا خرم الإبرة نحو آفاق الفضاء الواسعة؟
- هل رأيتم كيف عالج الأهلاوية أخطاء البداية بالقدرة على أن يكون الكل في واحد والواحد في الكل داخل الملعب وخارجه؟
وكما أن الانتصارات داخل الملاعب روح ولياقة ومهارة وتكتيك، فهي قبل هذا طموح وخيال جميل لا يغفل تفاصيل الحرص، وتلك شخصية النادي الأهلي التي يتسلح بها، ثقة تهزم الخوف وتتحدى الصعاب من خلال المزاوجة المتناغمة بين الحرص وبين الشجاعة.
وإذا كان للنادي الأهلي إدارة واعية ملتزمة تؤمن بتكامل الأدوار، فللأهلي أيضًا جمهور وفي ومخلص وغيور غيرة إيجابية، وما يميزه عن بقية جماهير الأندية الأخرى أنه يدرك وسائل تحقيق التوازن النفسي والمعنوي للاعبين قبل وفي أثناء وبعد كل مباراة.
اقرؤوا كلامي مرات ومرات وستكتشفون سر عظمة النادي الأهلي، حينها ستضعون الفواصل بين ناد وزنه ملايين الملايين، وأندية أخرى لا تساوي مليما في بورصة الإدارة الرياضية الناجحة.