أنيس منصور: عندما تتمدد أمام الطبيب قد تحسد مجانين كرة القدم

بواسطة Salwa.Alkheir , 11 أبريل 2023

"مسكين كل إنسان لا يحب كرة القدم.. هذا اقتناعي أخيرًا.. إنني أندم اليوم على كل السنوات التي مضت من دون إضاعتها جالسًا في الملاعب أو في المدرجات أصرخ وأصفّق وأهتف للكرة تنطلق يميناً ويسارًا تهز الشبكة أو تهز الثلاث خشبات".. بهذه الكلمات يلخّص الكاتب والفيلسوف المصري الراحل أنيس منصور (1924-2011) علاقته بكرّة القدّم.

منصور عاش محبًا للآداب والفنون دارسًا للفلسفة ومدرّسًا لها، مشتغلًا بالصحافة وأستاذًا من أساتذتها، ومسهمًا في كل تلك المجالات وغيرها بكتبٍ ومُؤلَفاتٍ قاربت 200 كتاب تشكّل في مجموعها مكتبة كاملة متكاملة عن المعارف والعلوم والفنون والآداب والسياسة والصحافة والفلسفة والاجتماع والتاريخ والسياسة والمرأة.

وكتب منصور في مجلات متنوعة، عكست نظرته ورؤيته للكون والإنسان والحياة، وأسهمت في تشكيل وجدان وثقافة أجيال عديدة من الشباب في العالم العربي كله.

وكعادته في البحث الدؤوب حتى ضمن الكواليس الخلفية للأشياء، وبراعته في التقاط النقاط الغائبة عن الآخرين يتقن منصور وصف تفاصيل خارج الملعب فيستطرد بالشرح قائلاً: "عندما تكون هناك مباراة، يسبقها الكلام والاستعداد النفسي والانتقال إلى الملاعب في السيارات والأتوبيسات.. ثم الانتظار ساعات في الملاعب.. حيث الهواء منعش والشمس مشرقة.. والضحك لسبب ولغير سبب وحيث يسحب كل واحد احتياطيه من القوة والحماس ويضعه في عينيه وأذنيه ويديه.. وفى نفس الوقت يشرب ويأكل ويضحك ويرتفع صدره ويمتلأ بالصحة والعافية".

لقد تحوّل كل إنسان إلى كائن حي شاب منتعش.. وتمضى الساعات وهو يصرخ ويصفق.. ويغضب ويقف ليجلس ويتحوّل بقصد، أو بدونه إلى طفل صغير.

كم ساعة مضت من كل يوم!؟ ساعات وأيام وشهور وسنوات وهو في غاية الحيوية والنشاط.. جسمه قد نفض كل متاعبه، وعقله قد طرد كل الهموم وسقط عنه كل شيء كأنه تراب أو هباب وأصبح مغسولًا نظيفًا نقيًا، ثم إن كل مناقشاته ومنازعاته وخلافاته تمثيل في تمثيل.

لأن الرياضة لا تعرف الكراهية والحقد، وأرجوك بعد ذلك أن تنظر إلى وجوه السياسيين والكُتّاب: أنت لا ترى عليها إلا الهمّ والغم الذي يطيل ألسنتهم وأقلامهم ويقصف أعمارهم.

فأقصر الناس عمرًا أكثرهم همًّا، وأطولهم عمرًا أكثرهم لعبًا أو مشاهدةً للاعبين.

"ثم إنها -أي هذه الدنيا- لا تساوي شيئًا.. اسمعها منى وعلّقها في أذنيك.. وسوف تنساها؛ لكن عندما تتمدد أمام الطبيب؛ سوف تحسد مجانين كرة القدم".

هكذا، لم يُعرف عن آخر هذه المحبة لكرة القدم مثلما عرف عن منصور.

وعلاقته بالساحرة المستديرة مثل علاقته بأشياء كثيرة، لا يستطيع الوقوع في غرامها فتتحكم في عقله وتسيطر على تصرفاته، ويعجز عن كراهيتها فيفقد الكثير من المعرفة بثقافات الشعوب وهواياتهم وتأثير اللعبة في مصائرهم.

وتلك عادة الفلاسفة، فكل الأشياء مهما كانت مهولة أو عابرة، تستحق التأمل، كيف ونحن في مواجهة رجل خُلِق ليتأمل؟! ويفكّر وينجز ولو عرف عنه الطقوس الغريبة في مثل هذه الأحيان، إذ يُقال إنه كان يخشى من البرد دائمًا حتى في غير الأوقات الباردة، ولا ينام إلا وقتًا قليلًا بسبب معاناته مع الأرق ولا يكتب إلا في الرابعة فجرًا!

وبعيدًا عن المنطق الشعبي السائد للتعاطي مع كرة القدم، فقد أخذ أنيس منصور اللعبة إلى مكان أبعد من ذلك، واعتبرها ميزانًا ومقياسًا ومعيارًا حتى في الحياة الاجتماعية والعلاقات الزوجية لدرجة أنّه قال ذات مرّة: "أن يكون لك طفل فأنت أب‏؛ لكن أن يكون لك أكثر فأنت حكم في مباراة فاشلة، الحب‏:‏ مباراة يلعبها اثنان ويخسرها اثنان أيضًا". 

وإن كان الكاتب يعيش مجده في مخيلّته؛ فيصير ما يريد دون أن يحاول حتى الخروج من بيته؛ فإن للصحافي حسًا استقصائيًّا ورغبة في اختبار كلّ شيء، وأنيس منصور لم يكن كاتبًا وفيلسوفًا معزولًا عن العالم، بل كان صحافيًا أيضًا يكتب عمودًا يوميًا بلغة بسيطة محببة شعبية وقريبة من الناس، لذا امتلك حدس الصحافي، وروحه المتقدّة عند تفاصيل مجتمعه وجرّب أن يكون لاعب كرة قدم دون جدوى، فراح باتجاه الرياضة العقلية التي تليق بالكُتّاب هي لعبة الشطرنج لكّنها لعبة حرب وواقع وميدان أكثر مما هي لعبة خيال جرّب التقدم بها دون جدوى فقال: "وكنت إذا لعبت مع أطفال الأسرة يغلبونني‏، رغم أنني اشتريت كتبًا ودرست وبرعت في فتح اللعب بالحصان والطابية‏,، ولا أكاد أصل إلى منتصف رقعة الشطرنج حتى يسهل حصاري وكش الملك‏!".

لكّنه عاد نحو المستطيلات الخضراء التي تحترف إشعال الطاقة والفرح وأيقن بأن المتعة الحقيقية هي كرة القدم، وكتب مقاله: "العب العب! ليطول عمرك".

ولأن الاعتياد من سمات التقليديين والرتيبين الذين يشيّد الكتّاب مع منطقهم عداءً جذريًّا، لذا لم يكن سهلاً على أنيس منصور أن يعتاد شيئًا مدى حياته فكان يتغزّل بالكرة طورًا، ويشتمهًا تارة، ويهرب منها أحيانًا، وهو ما حصل بالفعل عندما جرّب الهروب من مشاهدة مباراة مصر مع إنجلترا في نهائيات كاس العالم 1990 وذهب لمشاهدة عرض للأزياء.

وقد لعنها ونقم عليها متعجبًا ومندهشًا من الملايين التي تتدفق على هؤلاء اللاعبين بينما  يموت الأدباء الكبار من الجوع، وهى قضية قديمة شغلت كثيرًا من المثقفين والمفكرين، وكانت سؤال الأديب والروائي توفيق الحكيم: كيف يموت الكاتب بفكره وقلمه وهو لا يملك ربع ما يحققه لاعب محترف بموسم واحد بقدمه وحذائه! ربما الجواب يتركّز على فكرة أنه يحق لصانع المتعة ما لا يحق لغيره والأكيد بأنه لا متعة تضاهي كرة القدم!

Image
الكاتب أنيس منصور (facebook/anesbooks)
Live updates
Off
Author Name
Opinion article
On
Source
Show in tags
Off
Caption
الكاتب أنيس منصور (facebook/anesbooks)
Show Video
Off