التمثيل ليس تقمّص الشخصيات ومحاكاة الطبيعة فحسب، بل هو مهنة الرشاقة، التي تفوق معطياتها فعل السحر، ويُنتظر منها صناعة الدهشة.
على صاحبها أن يبذل جهودًا تتعدّى الاعتيادي والمتاح، ليلتقط شخوصًا عابرة أمامه في الحياة والفنّ والأدب، يعجنها وفق مخيّلة كاتب حقيقي لا مجرّد سارق، وبناء على رؤية مخرج مثقّف، يمتلك رؤية وحلولًا وصوغًا مشهديًّا مكتملًا، لا مُنفِّذ إنتاج جلس وراء "المونيتور".
على أن يُعيد تقديمها بطريقة مبتكرة، ترسمها مقترحاته الشخصية، وشغله على عوالمها النفسية الداخلية أوّلًا، ثم هيئتها البرّانية.
أما النجومية؛ فهي أبعد من الشهرة بأميال! هي أن تحفر مكانك بأظافر من شغف في الوعي الجمعي للجمهور، وأن تسكن وجدانهم بخفة أقل من أن يشعروا بها، لكنهم يدركونها مع ضربات قلوبهم، وهي أن تتسلل إلى جلساتهم، وذكرياتهم وحميميتهم، تمامًا مثلما يهرع النوم إلى أهداب متلفة من شدة التعب والنعس... النجومية هي عندما تغيب فيزداد حضورك، وعندما يقترب زيت فانوسك من أن ينضب؛ فتشعّ أكثر وأكثر! وهي أن يتواصل مصاب بالتوحّد مع منجزك الإبداعي كصديق فريد، وأن يتعلم متلعثم بالنطق من طريقة كلامك، وأن يتقمّص مراهق رائحة عطرك، وأن يشعر مريض بالارتياح حدّ الشفاء لمجرد مرورك.... النجومية: هي أن يَذكُرك الغريب كلّما حنّ إلى وطنه مثلما يفعل مع أوابده الخالدة!
ولعلّ فكرة الممثل النجم حالة نادرة؛ فقليلاً ما يجتمع القطبان في معادلة شخص واحد.
فكثير ما يلفتك ممثل عميق الموهبة تنقصه كاريزما النجم، والعكس صحيح.
ربما يكون اسم مثل آل باتشينو هو بمثابة مثال ناصع ونموذجي على الممثل النجم.
الساحر الممسوس بروح الدهشة، والصانع الذي حفر ببلاغة في عمق التاريخ.
طيب! ماذا لو عرفت بأن لكرة القدم فضلًا على شعبية هذا النجم الآسر ولو بطريقة غير مباشرة؟!
عشّاقه يجزمون أنه مترف بالموهبة، لذلك انتظروه كثيرًا قبل أن يتوّج على منصة التكريم ويحصل على جائزة الأوسكار.
رغم أنه حظي بتصفيق حار عبر مشوار طويل في أكثر من محطة، لكن بعد نجاحه المدوي في رائعة فرانسيس فورد كوبولا "العرّاب" شهد ركودًا نسبيًّا في العقد الذي تلاه.
وذلك باستثناء دوره كتاجر المخدرات المجنون توني مونتانا في فيلم Scarface (1983، الوجه ذو الندبة- كتابة أوليفر ستون وإخراج بريان دي بالما) أما بقية أفلامه في ذلك العقد فقد كانت أقل نجاحًا وأدواره أخف إبهارًا. فيما عادت خطواته الشعبية العريضة بأكثر من مناسبة لاحقة، لكن ظلت أبرزها مدينة بشكل أو بآخر لمستديرة السحر!
القصة ترتبط بكاتب يدعى جيوفاني أربينو الذي ظل كاتبًا مغمورًا حتى كتب رواية عن كرة القدم سمّاها "الأزرق الداكن" فقد اختار جيوفاني كتابة دراما تدور أحداثها حول مونديال 1974 بألمانيا واستغلت دار النشر الفكرة وقامت بعرض الرواية في الملاعب مع دعاية ضخمة أسهمت في بيع أكثر من نصف مليون نسخة من الرواية. لينجز بعدها رواية "عطر امرأة" التي حوّلها المخرج مارتن بريست إلى واحدة من أيقونات السينما العالمية، وهي أبرز محطات آل باتشينو التمثيلية في حياته المهنية. خاصة أنه حصد فيها جائزة الأوسكار لأفضل ممثل رئيسي سنة 1993.. حينها لعب شخصية "كولونيل" خرج من الحرب مصابًا بالعمى، فقرر أن يعيش مغامرة المتعة قبل أن ينهى حياته، وأراد أن يرتشف من عبق الكون آخر قطرة قبل أن يمضي إلى النهاية المحتومة! خاصة أنه خرج من أهوال الحرب بموهبة خارقة تعوضه عن فقدانه بصره، ذلك بقدرته على تمييز عطور النساء، وتحديد أصنافها وتواريخ صنعها، وتفاصيل كل عطر بدقة.
لاحقًا يرسل إليه مكتب التشغيل شابًا جامعيًّا يعمل مساعده، ويعيش أزمة هو الآخر، ورغم أن نقاشهما يحتّد في البداية لكن الشاب يأخذ الوظيفة ويدافع عن الكولونيل في مجلس الجامعة بمرافعة ساحرة، ويتحوّل إلى سبب حقيقي لتمسك الكولونيل بالحياة بعد أن كان عاقدًا على الانتحار.. ثم تمضي الدراما بحثًا عن معنى وهدف للوجود، هكذا، برع الممثل العالمي في صوغ تفاصيل متباينة للشخصية، وذهبت رقصته الناعمة مع تلك المرأة التي لم يستطع مقاومة عطرها نحو التداول الشعبي العارم حتى اليوم، دون أن يدرك أحد بأن الفضل في الشراكة التي أوصلت الدور لآل باتشينو بهذا النص المحكم، كانت بالدرجة الأولى لأدب كرة القدم!
لاحقاً وفي سنة 1999 أنجز الممثل الإيطالي الأصل دورًا في فيلم Any Given Sunday (فرص أيام الأحد- إخراج أوليفر ستون) إذ يحكي الشريط عن نادٍ عريق في كرة القدم الأمريكية، يصل إلى شفير الانهيار فتحاول صاحبته التي ورثت ملكيته عن أهلها تسييجه عاليًا وحمايته من السقوط!