فَنُّ الرِّماية في الشِّعرِ العربيّ

بواسطة Salwa.Alkheir , 25 يونيو 2023

ما كان  للأدب والشعر العربي أن يغفل عن التَّغنِّي بِفَنِّ الرِّماية، فهي رِياضة مرتبطةٌ ارتباطاً عميقاً بحياة العرب وطَرزها وأساليبها، كما أنّها متعلّقةٌ بطبيعة البيئة الجغرافية التي عاشوا فيها، وفرضت عليهم أن يكونوا قادرين على ممارسة كثير من فنون القتال وأنواع الرياضة ومبادئ الفروسيّة التي تحفظ لهم سلامتهم وتُؤمّن معيشتهم بهدوء وسلام.  

سجّل لنا الشعرُ العربي كثيراً من الوقائع والأحداث المهمّة التي ارتبطت بفنّ الرّماية، ولعلَّنا لا نجدُ أحداً لم يسمع من قبل بالأبيات الشعرية التي صارت مَثلاً سائراً على أَلسُنِ النَّاس، والتي يقول الشاعر فيها:

فيا عجباً لمن ربيت طفلاً         ***         أُلقّمه بأطراف البنانِ
أعلِّمه الرمايةَ كلّ يومٍ         ***         فلما اشتدّ ساعدُه رماني
وكم عَلَّمتُه نَظمَ القَوافي         ***         فلمَّا قالَ قافيةً هَجانِي
أُعلِّمُه الفُتوَّةَ كلَّ وقتٍ         ***         فلمَّا طَرَّ شاربُه جَفانِي

إنَّ صاحب هذه الأبيات الشعرية هو الشاعر معن بن أوس المُزنيّ، وهو من شعراء العصر الجاهلي، يقال إنّه أدرك الإسلام وأسلم، وهو من صحابة النبي الكريم محمد صلّى الله عليه وسلّم، كما أنّه شاعر مُجيد، يُعَدُّ في عِداد فُحول الشُّعراء، ومن مخضرمي الجاهلية وصدر الإسلام، ويقال إنّه من أشعر شعراء صدر الإسلام، وقد كانت وفاته في المدينة المنوّرة.

ولهذا الشاعر روايات وقصص وأخبار مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجاء في أحد الأخبار أن معاوية بن أبي سفيان كان يفضله على غيره من الشعراء، وكان يقول فيه: "أشعر أهل الجاهلية زهير بن أبي سلمى، وأشعر أهل الإسلام ابنه كعب ومعن بن أوس". أضف إلى ما سبق أنّ معن بن أوس هو صاحب لامية العجم التي يقول في مطلعها:

لَعَمرُكَ ما أَدري وَإِنّي لأَوجَلُ
عَلى أَيِّنا تَغدو المَنِيَةِ أَوَّلُ

وهناك خلاف حول نسبة هذه الأبيات، فقد قيل إنها للشاعر مالك بن فَهم الأَزْدِي، لكنَّ الرّاجح أنَّها لمعن بن أوس المزنيّ. أمَّا حكاية هذه الأبيات التي صارت مَثلاً سائراً، واشتُهرت على مرِّ العصور والأزمنة، ودارت بين النَّاس أنَّ الشّاعر معن بن أوس رَبَّى ابن أخته، واعتنى به عناية فائقةً إلى أن كَبُرَ الفتى وصار شابّاً قويَّ السّاعد والبُنيان، فحين شعر الفتى من نفسه القوّة والاكتمال تنكّر لخالِه وصار يردُّ الجميل بالسوء والأذى والنّكران. 

لذلك يُستعمل هذا المَثَلُ للإشارة إلى ناكري الجميل الذين لا يُثمر فيهم المعروف، والذين يُسِيئون إلى مَن أحسن إليهم، ويُشير إلى كلّ مَن تنكَّر لِمَن أحسن إليه، ولم يكتفِ بِرَدِّ المعروف والإحسان بالكُفرِ بل تَعَمّدَ الأذى والضَّرر.

واللَّافتُ والجميلُ أنَّ الشّاعر قد وظَّفَ فَنَّ الرِّماية لخدمة هذا المعنى، ورَبَطَهُ بالشعر أيضاً، ولا عجب فالرِّماية ونظم الشعر آنذاك من أهم مُقوّمات الحياة التي تدلُّ على مكانة المرءِ بين النَّاس.

حتّى إنَّ شطراً واحداً من هذه الأبيات يكفي للدَّلالة على مُراد القائل، وإن لم يُكمل الأبيات، وذلك يدلُّ على شهرتها وكثرة انتشارها وسعة معرفة الناس بها، كما أنها أبيات تعتمد على الإيجاز ومَبنيّةٌ على حسن التشبيه، وإصابة المعنى وجمال الكناية ودِقَّتِها.

أمَّا رواية الأبيات ففيها بعض الاختلافات، فهناك مَن روى قول الشاعر: "فلمَّا اشتدَّ ساعدُه رماني" بالسين المُهمَلة، أي قال: (استَدَّ) بِالسَّينِ المهمَلَة بدلاً من (اشتَدَّ)، وبالنظر إلى المعنى فهو صحيح، فالسَّدادُ في الرَّمي حَسنٌ ومَطلوب، ويأتي السَّدادِ بمعنَى: الاستِقَامة، والمقصود هو السَّدادُ في المرمَى وإصابة الهدف. وهذه الرواية وَرَدت في معظم كتب التراث، وقد نبَّه إليها كثيرٌ مِن أهلِ اللُّغةِ في مصنَّفاتِهم ومعاجمهم، كأمثال الخليلِ بنِ أحمدَ في (العَين)، والجوهريُّ في (الصَّحَاح)، وابنُ مَنظورٍ في (اللِّسان)، وغيرُهم.

وفي رواية أخرى هناك من قال (اشتدَّ) بالشين المعجمة، والشِّدة في الساعدِ بمعنى قوّته وصلابته صحيحةٌ أيضاً، فقوله: (فلمّـا اشْتَدَّ) بِالشِّينِ المعجَمَةِ، يقصد به اشْتِدادِ العَزمِ وقوَّة الزَّند وشِدّته، فحين يُقَالُ اشْتَدَّ الشَّيءُ، أي قَوِيَ وصَلُب، وحين نقول: شَدَّ عَضُدَه نقصدُ أنَّه قَوَّاه. والمشهورُ والدَّائرُ على ألسِنَـةِ النَّاسِ في هذا البَيت قولهم (اشتدَّ) بالشين بدلاً من السين.
 

Image
فن الرماية (Getty)
Live updates
Off
Opinion article
On
Source
Show in tags
Off
Caption
الرماية من الرياضات التي لها حضور كبير لدى العرب منذ القدم (Getty)
Show Video
Off