فجر يوم الإثنين الخامس من رجب سنة 15 للهجرة الموافق الثاني عشر من أغسطس/ آب سنة 636م كانت معركة اليرموك، من أيّام الله تعالى التي ستبقى محفورةً في عقول الأجيال على مرّ الزّمان؛ يومها التقى ثلاثون ألف مسلم بمئتي ألف من الرّوم فكانت عاقبةُ المعركة تغيير النّظام العالميّ حينها؛ إذ لقي جيش الروم، أقوى جيوش العالم يومئذ، هزيمة قاسية، وفقد زهرة جنده، وقد أدرك هرقل حجم الكارثة التي حلت به وبدولته، فغادر المنطقة نهائيًّا وقلبه ينفطر حزنًا، وهو يقول: "السّلام عليك يا سوريا، سلامًا لا لقاء بعده، ونِعمَ البلد أنت للعدوّ وليس للصّديق، ولا يدخلك روميّ بعد الآن إلا خائفًا".
وفي معركة اليرموك مشاهدٌ كثيرةٌ تستحقّ الوقوف عندها غير أنّ ما يتّصل بالمبارزة، وهي الرّياضة التي نتناولها في مقالاتنا هذه الفترة، كان المشهدُ بارزًا ومؤثّرًا وفيه الكثير من الدّروس التي ينبغي على ممارسي الرّياضة عمومًا ورياضة المبارزة على وجه الخصوص تمثّلها وانتهاجها في أخلاقهم وسلوكهم.
بطلُ المشهدِ شابٌّ لم يبلغ العشرين من العمر، لم ينقل لنا التاريخ اسمه، وكلّ ما قالته كتب التّاريخ والرّواة وشهود العيان في المعركة أنّه غلامٌ من قبيلة الأزد لم يعرفه أحدٌ وهو لم يعلن عن اسمه.
هذه أخلاق الفرسان الحقيقيّة والمبارزين الأفذاذ؛ فلا همّ لهم في الاستعراض المَرَضيّ، أو استجلاب المصفّقين؛ بل همّهم تحقيق الإنجاز بمعناه الحقيقيّ لا الوهميّ؛ الإنجاز الذي يكون على أرض الواقع وليسَ في أوهام العوالم الافتراضيّة مع غيابٍ عن تحقيق أيّ نتائج على الأرض.
خرج فارسٌ مقنّع بالحديد مدجج بالسلاح من الروم يطلب المبارزة من المسلمين وفي المسلمين أشهر فرسانهم ومبارزيهم؛ غير أنّ هذا الفتى الأزديّ شقّ الصّفوف مسرعًا تجاه أبي عبيدة عامر بن الجرّاح رضي الله عنه؛ وقال له: "أيّها الأمير، إنّي أردتُ أن أشفي قلبي، وأجاهد عدوّي وعدو الإسلام، وأبذل نفسي في سبيل الله تعالى لعلِّي أُرزَقُ الشّهادة، فهل تأذن لي في ذلك؟"
إنّها المبادرة وإثبات الذّات، وهي من أهمّ أخلاق الرّياضيّ وسماته على الخصوص وسمات الشّباب الذين يتدفّقون بالحياة عمومًا.
وإنّني يستفزّني كثيرًا الشّباب الذين يتساءلون دومًا عن دورهم، ويشكون ويتذمّرون من عدم إفساح المجال لهم لأخذ هذا الدّور.
وأقول لهم: أيّها الشباب في كل أماكن وجودكم في المؤسسات والجماعات والمدارس والتيارات الفكريّة الإسلاميّة وغير الإسلاميّة وفي كلّ مواطن العمل العام: إنَّ الأدوار لا تُمنَح منحًا وإنّما تُنتَزع انتزاعًا، والعاجزون هم مَن يستجدون دورهم ويتسوّلون من الآخرين مكانهم ومكانتهم.
لا تتوقّعوا يومًا من الأيام أن تمنَّ عليكم مرجعيّاتكم أو قياداتكم أو رموزكم أو شيوخكم بالدّور الذي تطمحون وتتطلّعون إليه؛ ولو بقيتم تستجدونهم وتتسوّلون على أبوابهم ألف عامٍ فلن يفعلوا؛ فانتزعوا دوركم وبادروا بأنفسكم وافرضوا احترام الكبار لكم واعترافهم بكم.
ورحم الله محمّد إقبال إذ يقول: "المؤمن الضعيف يتعلّل بالقضاء والقدر، والمؤمن القويّ هو قضاء الله تعالى وقدره في الأرض"، فكونوا قضاء الله تعالى وقدره حيثُ أنتم وأينما كنتم.
خرج هذا الغلام الأزديّ وبادر وعبّرَ عن حرقته فأذن له أبو عبيدة بالمبارزة؛ فانطلق إلى خصمه وبعد أن سار قليلًا التفت إلى أبي عبيدة وقال له: "يا أبا عبيدة هل لك إلى رسول الله من حاجة أبلغه إيّاها؟".. هنا بكى أبو عبيدة رضي الله عنه حتى اخضلت لحيته، فما أعظمها من أشواق، وما أعظمها من غايات يتحلّى بها الشباب عمومًا والرياضي على الخصوص؛ أشواق سماوية تعلو على الطين، وما أعظم الإنسان حين يسمو على الطين ويتطلع إلى السماء.
فقال أبو عبيدة: "أَقْرِئ رسول الله مني السلام وأخبره أنَّا وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا"،
وانطلق هذا الغلام المبارز متصديًا لهذا الفارس البطل من أبطال الروم وهو يرتجز:
لا بدّ من طعنٍ وضربٍ صائبِ
بكلّ لدن وحسامٍ قاضبِ
عسى أن أفوز بالمواهبِ
في جنّة الفـردوس والمراتـبِ
وما أن بارز عدوّه حتى أجهز عليه ولم يرجع بل وقف شامخًا يقول: هل من مبارز؟ وخرج إليه المبارزون تلو بعضهم وهو يفتك بهم بكل شجاعةٍ وإقدام حتّى قضى على أربعة منهم؛ غير أن المبارز الخامس تمكّن منه وطعنه طعنةً نال بها غايته ومناه في الشّهادة في سبيل الله تعالى.
ما أعظم المبارز حين يكون همه الإنجاز الحقيقيّ لا الاستعراض الوهميّ، وما أعظم المبارز حين يكون مبادرًا مثبتًا نفسه، وما أعظم المبارز حين تكون أشواقه سماويّةً لا طينيّة.