"النسر يحلّق فوق السماء، يلتقي الصياد والقطيع بدائرتهم. يا ثورة متواصلة من النجوم الُمشكّلة! أيها المورد الدائم للمواسم المحدّدة! يا عالم الصيف والخريف: الموت والولادة! الحلقة اللانهائية للأفكار والأفعال.. اختراع لانهائي، تجربة لانهائية، يجلب المعرفة بالحركة، ولكن ليس السكون، معرفة الكلام، ولكن ليس الصمت، معرفة الكلمة، والجهل بالكلمة. كل معرفتنا تقرّبنا من جهلنا، كل جهلنا يقرّبنا من الموت، لكن قرب الموت لا يقربنا من الله. أين هي الحياة التي فقدناها في العيش؟ أين الحكمة التي فقدناها في المعرفة؟ أين المعرفة التي فقدناها في المعلومات؟ الدورات السماوية في عشرين قرنًا، يفصلوننا عن الله ويقربوننا من التراب!".
قد يكون غريبًا عن عالمنا العربي اسم صاحب تلك الأبيات الوجودية الموغلة في فلسفة قراءة دورة الكون، والتماس فقرنا تجاه الإفادة من دروس القدر المتلاحقة! إنه توماس ستيرنز إليوت (1880/1965) أو تي. إس. إليوت، كما عُرِف اختصارًا، وهو أحد أبرز شعراء أمريكا والعالم في القرن العشرين. وبعد إسهاماته في الابتكار بهذا النوع، حصل على جائزة "نوبل للآداب" عام 1948، ولن يكون سهلًا أن يخرج هذا الشاعر الذي يحمل وجهة نظر نقدية ربما تصل للسوداوية من غالبية ما يحيط به، ليقول حرفيًا لقرائه والعالم أجمع جملة بوقع مكتبة كاملة : "أغبياء أولئك الذين يكرهون كرة القدم" العبارة النارية سيحيلها تقادُم الزمن، بالدليل شبه القاطع إلى قاعدة آسِرة، طالما أن مستديرة السحر أثبتت أنها منبع صريح للشغف والحماس والتحدّي وتراكم الطاقة واللهفة.
حين عاش إليوت كان يعتقد النقّاد بذريعة مسحة الكآبة الطاغية على قصائده، بأنه من غير الممكن أن يصرف ولو جزءًا من اهتمامه على لعبة مثل كرة القدم، ومع ذلك أبدى الرجل فهمًا عميقًا وولهًا عاليًا، وترك إشادات صريحة بلعبة الشعوب الأولى، علماً أنه كان من روّاد التجديد والحداثة في الشعر على مستوى العالم، بل لم يقف الأمر عند هذا الحدّ، إنما اعترف صاحب القصائد الخالدة بأكثر من مناسبة بأنه كان يتهرّب من الندوات والمؤتمرات الجافة، والجلفة، والمملة في كثير من الأحيان، عندما يتزامن انعقادها مع مواعيد إقامة مباريات كرة القدم التي كان يتابعها بنهم!
يُدرّس منجز إليوت في أهم جامعات العالم، وقد تحوّلت قصيدته الشهيرة "الأرض الخراب" أو "الأرض اليباب"، التي نشرها في مجلة "دايل" في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1922 بلا هوامش. ولكن في العام نفسه نشرتها دار "بوني وليفررايت" بألف نسخة مرفقة بهوامشه. وقد صدر كتاب قيّم بعنوان "قصائد تي .إس. إليوت" لكريستوفر ريكس وجيم ماكيو اللذين لم يبقيا سطرًا من هذه القصيدة، إلّا وأحالاه إلى مصادر أسطورية ودينية، وشعرية ونثرية، في كل التراث الإنساني وليس الغربي فقط! وكأن الشاعر تقصّد ذلك بطريقة خلّاقة، استوعب فيها التراث الإنساني وفهمه جيدًا، وأعاد اجتراحه بلغة شعرية؛ ليصبح كأنه تراثه الخاص!
عدا أن القصيدة ذاتها تُرجِمت إلى العربية بنسخ متعددة مع فوارق زمنية كبيرة أسهم في تدويرها إلى لغة الضاد مجموعةٌ من أهم الشعراء العرب أبرزهم: يوسف الخال، وأدونيس، وتوفيق صايغ الذي أشتغل على ترجمتها قبل وفاته، ثم قدّمها ونقّحها وأسهم في نشرها بعد رحيله بزمن طويل الشاعر العراقي محمد مظلوم. وربما أتت تلك الترجمات المتنافسة انسجامًا مع قاله عنه معاصره الشاعر والناقد الأمريكي عزرا باوند: "كلما عرفنا إليوت أكثر؛ كان ذلك أفضل".
إليوت نفسه الذي تسابق أهم شعراء الوطن العربي على نقل منجزه إلى لغتهم، كرر الدهشة لعشّاق كرة القدم مرّة ثانية عندما قال: "كرة القدم هي العنصر الأساسي في الثقافة المعاصرة والشعر والقصة، والرواية ليست عنصرًا أهم من تلك اللعبة التي تحمل ثقافة الشعوب وتعكس تحضّرها".